إعادة تشكيل سوريا الجديدة: نحو مشروع ديمقراطي تشاركي من خلال صياغة العقد الاجتماعي:
إن الحلم بسوريا جديدة لا يقتصر على إسقاط نظام استبدادي فحسب، بل يتطلب إعادة بناء جذرية للنسيج المجتمعي والسياسي، بناءً على مفاهيم العدالة الاجتماعية والتعددية الثقافية والتعايش القائم على الإقرار المتبادل والديمقراطية التشاركية.
فما يمارس اليوم من منطق الاستعلاء الطائفي أو القومي أو الإقصاء السياسي، ليس سوى نتاج لغياب فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض، والإنسان مع أخيه الإنسان. فالديمقراطية الحقيقية ليست مجرد آلية اختيار حكومة، بل هي مشروع أخلاقي وثقافي يعيد تعريف مفاهيم مثل الذات والآخر، ويسقط الثنائية الكاذبة بين الدولة والمجتمع.
إن الإكراه السياسي هو أساس الاستبداد، سواء في شكله القومي أو الطائفي أو الحزبي الضيق، وأن التحرر الحقيقي يبدأ بتفكيك الهياكل المركزية التي تكرس الهيمنة. فما يشهده الواقع السوري اليوم من صراعات داخلية وشحن طائفي وعرقي، هو انعكاس لاستمرارية العقلية السلطوية التي ترفض تحويل السلطة إلى هيئة خدمية تدار من أسفل إلى أعلى لخدمة المجتمع بدون تمييز.
الديمقراطية مسؤولية جماعية وليست محاصصة:
فالديمقراطية ليست مجرد حصة في الحكم لتسلط فئة معينة على باقي الفئات، بل هي مسؤولية جماعية قائمة على الحوار الدائم والتعاون المتبادل. ولذلك، فإن غياب مفهوم المساواة كقيمة حضارية، وعدم الاعتراف بالتكافؤ المجتمعي بين المكونات، حتماً سينتج انقسامات تعيد إنتاج الأزمات السابقة بل وتصعد من حدتها.
الفرد في المجتمع الديمقراطي ليس مواطناً بحقوق مجردة، بل عضواً في جسد حي يتغذى على الارتباط المتبادل بين الثقافات والأعراق والأديان. فالحرية الحقيقية لا تتحقق إلا عبر التحرر من عقلية السيطرة، سواء كانت سيطرة الدولة على المجتمع أو سيطرة مجموعة على أخرى.
ثورة ثقافية تسبق الثورة السياسية
ولذلك، فإن إعادة تأسيس سوريا الجديدة تتطلب ثورة ثقافية قبل أن تكون سياسية؛ تبدأ بتعليم قيم التكافؤ والشراكة في المدارس والأماكن العامة، وتنتهي ببناء هيئات قرار جماعية تعكس التنوع دون تمييز. فالعدالة ليست توزيعاً ميكانيكياً للمناصب، بل هي اعتراف متبادل بالخصوصيات مع التزام مشترك بالهدف العام، وهو العيش المشترك كاختبار وجودي.
الحرية ليست غياباً للسلطة، بل هي مساهمة كل فرد في صياغة القواعد المشتركة، وهو ما يسمى بالديمقراطية المباشرة، كما في النموذج السويسري. فإذا ما استمرت القوى الفاعلة على الأرض في تعاملها بمنطق الحسابات الضيقة أو المحاصصات، فإن سوريا ستظل أسيرة الدوامة التاريخية من الصراعات.
تحويل التنوع من مصدر صراع إلى مصدر قوة
الحل لا يكمن في إدارة التنوع كمصدر للصراع، بل في تحويله إلى مصدر قوة من خلال بناء عقد اجتماعي قائم على “الذاتية الجمعية”، أي أن يدرك كل كيان أنه لا يحقق أمنه إلا عبر أمن الآخرين، وأيضاً أن كرامة الفرد مرتبطة بكرامة الجماعة. هذا هو جوهر الديمقراطية المجتمعية، والتي تعتبر أساس التحول من الدولة المجردة إلى المجتمع الحي، ومن الوحدة الافتراضية إلى الوحدة العملية القائمة على المصالح المشتركة.
ولذلك، فإن غياب هذه الرؤية اليوم ليس مجرد خلل في السياسة، بل هو إفلاس أخلاقي في فهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والعمران، وبين التاريخ والمستقبل. فسوريا الجديدة لن تبنى بخطابات الانتصار أو الخطط الدولية، بل برؤية فلسفية عميقة تعيد تعريف معنى الانتماء كمسؤولية جماعية، وتحول الصراعات إلى فرص لتعزيز الوعي الأخلاقي المشترك.
وإلا، فإننا سنظل ندور في فلك الكر والفر، والذي يعيد إنتاج الطغيان بأقنعة مختلفة، بينما تبقى الجماهير هي الضحية الدائمة لغياب الوعي الثوري الحقيقي.
الأستاذ: أنس قاسم المرفوع