نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، نقد وتحليل في فلسفة الامة الديمقراطية
–بقلم: فرزندا منذر
في ظلِّ عالمٍ يغلي بنيران الحروب والصراعات المستمرة، حيث تتضاءل فيه المساحات المخصّصة للعقل والحكمة، يعود الفكر الذي طرحه القائد والفيلسوف عبد الله أوجلان، ليضعنا أمام اختبار حقيقي لمفهوم السلام والديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وحل القضية الكرديّة.
بلا ريب، إنّ هذه المنطقة تُعد من الأكثر تعقيداً في العالم، بما تحويه من صراعات إثنية ودينية معقدة، وتداخلات دوليّة وأيدلوجيّة تزيد من عمق الأزمة.
في هذا السياق، يبدو أنّ شخصيّة القائدعبدالله أوجلان، تمثّل نموذجاً للفكر الثوري الجديد الذي يتحدّى الأطر التقليديّة في تفسير النزاعات القومية.
– التاريخ يعيد نفسه: القائد عبد الله أوجلان ورموز السلام:
حينما نتأمّل تاريخ البشرية، نجد أنّ رموز السلام أمثال “مهاتما غاندي، مارتن لوثر كينغ، نيلسون مانديلا “، قد وُجهت إليهم – فيما مضى من التاريخ – اتهاماتٌ مماثلةٌ لما وُجهت إلى القائد عبد الله أوجلان، فلم يتمّ تشويه صورتهم فحسب، بل اتهامهم بخيانة شعوبهم أو التفريط بحقوقها.
ولكن، ومع مرور الوقت، عرف الناس قيمتهم الحقيقية، وفهموا قدر الأفكار التي طرحوها والتي تحوَّلت – فيما بعد – إلى دروس عظيمة خدمت الإنسانية جمعاء، والقائد آبو، الذي وهب كل حياته لحل القضية الكردية والقضايا الإنسانيّة، ووهب حريّته التي فقدها منذ أكثر من ربع قرن في سجون تركيا، قد وُجهت إليه أصابع الاتهامات ذاتها. لقد بات التاريخ شاهد عيان على كل من يدعو للسلام كخيار استراتيجي، يصبح هدفاً للشبهات، الاتهامات الباطلة، الهجوم المباشر وغير المباشر، وبالأساليب الملتوية التي لا تمت للإنسانيّة برابط، لا سيما، إذا كان هذا السلام يتطلّب التغيير الجذري في الأنظمة السائدة.
لكن، ومثلما انتصر التاريخ لأفكار أولئك القادة، فهل سيكرر التاريخ نفسه مع القائد والفيلسوف عبد الله أوجلان؟ هل ستثبت فلسفته، التي تعدّ التعدديّة والعدالة أساساً للاستقرار في المنطقة؟ هل سيتمّ حل القضية الكرديّة وخاصةً في تركيا على المنظور الديمقراطي الذي طرحه القائد آبو؟ وما مدى صحة هذا الطرح في المستقبل؟
استفهاماتٌ تطرح تحديّاً، ووُجبَ على المفكرين والسياسيين أن يعيدوا التفكير في الخيارات المطروحة.
فلسفة الأمة الديمقراطية، وصيغها السياسية المختلفة، مناهضة للدولة القومية التقليدية، والقائد عبد الله أوجلان لا يدعو إلى “الدولة القومية” التي نعرفها، ولا يروّج للأفكار الثابتة في كتب القانون الدولي، أو في مواثيق الأمم المتحدة، بل يُبرهن في أطروحاته بالحجة المُستلهمة من التاريخ، أنّ الدولة القوميّة السائدة في العالم منذ أربعة قرون، قد باءت بالفشل الذريع في حل مشاكل التعدديّة الثقافيّة والإثنية والدينية.
القائد عبد الله أوجلان، يذهب في طرحه إلى أبعد من ذلك بكثير، فهو يرى بأنّ هذه الأنظمة هي سببٌ رئيسي في الكوارث التي يعاني منها – في الوقت الراهن – الشرق الأوسط والعالم.
-مفهوم “الأمة الديمقراطية” الذي قدّمه الفيلسوف عبد الله أوجلان هو الحل البديل:
ففي هذه الفلسفة، لا يتمّ تجاهل حق أي قوميّة أو جماعة في تحديد مصيرها، بل يتمّ التأكيد على احترام التعدديّة الثقافيّة والدينية داخل نظام منسجم، يعترف بحقوق الجميع.
إنّ المجتمع الديمقراطي الذي يحلم به القائد عبد الله أوجلان، يعتمد على فكرة “الكونفدرالية الديمقراطية”، أي وحدة غير مركزيّة تقوم على احترام حقوق المجتمعات المتنوعة، بما في ذلك حق الشعب الكردي في تقرير مصيره.
– إحدى أبرز نقاط قوة فلسفة المفكر عبد الله أوجلان، تكمن في مرونتها الفكريّة وإبداعها المتجدد، فهذه الفلسفة ليست ثابتة بل تتطور مع الزمن، لتخدم المجتمع تماماً، كما هو الحال مع الفكر الإنساني نفسه، فهي تتفاعل مع المستجدات السياسيّة والاقتصاديّة، وتعتبر أنّ الحلول المطروحة يجب أن تكون ديناميكيّة وليست جامدة.
– النقد الموجّه لفكر القائد عبد الله أوجلان- الاتهامات والمفاهيم الخاطئة:
تواجه فلسفة القائد عبد الله أوجلان العديد من الانتقادات، لعلّ أبرزها كانت من بعض المثقفين الذين يصرّون على أنّ مفاهيم مثل “الأمة الديمقراطية”، و “المجتمع الديمقراطي” غير واقعية، ولا تندرج ضمن معايير الأمم المتحدة، أو النظام الدولي القائم على الدولة القومية.
هؤلاء ينتقدون هذه المفاهيم باعتبارها “غير شرعيّة”، وغير” عملية”، متجاهلين في الواقع أنّ هذه التصورات تمثّل محاولةً للتكيّف مع الوضع القائم، وتحقيق التعايش السلمي في منطقة مليئة بالتناقضات.
لكنّ المفكّر عبد الله أوجلان، لا يطرح هذه الأفكار إلا بعد دراسة معمقة، وفهم للواقع السياسي المعقّد في المنطقة والعالم، ففلسفته ليست مجرد ردّ فعل عاطفي ضد الدولة القومية، بل هي اجتهاد فلسفي يعكس الوعي العميق بمشكلات الشرق الأوسط والتاريخ البشري، ويتطلّب جرأة كبيرة لتقديم حلول غير تقليديّة.
-القائد عبد الله أوجلان، الفيلسوف الثائر الذي لا يعترف بالثبات:
ما يميّز القائد آبو عن العديد من الفلاسفة و السياسيين الآخرين ، هو استعداده المستمر لتطوير أفكاره ، فهو لا يتوقّف عن البحث و التطوير الفكري ، و من خلال كتبه و مؤلّفاته ، و على سبيل المثال لا الحصر : “الحداثة الديمقراطية”، “الكونفدرالية الديمقراطية”، و “الحرية و المساواة بين الجنسين” “المجتمع الأيكولوجي ” ” المجتمع الكومينالي ” ” الصناعة الايكولوجية ” “جنولوجيا” ، يقدّم القائد فلسفة شاملة لا تقتصر على الكرد بل على كل شعوب الشرق الأوسط و الإنسانية ، هذه الفلسفة تتناول قضيّة الحريّة ، العدالة ، والمساواة كقيم أساسيّة، و تقدّم حلولاً عمليّةً لمشاكل اقتصاديّة و اجتماعيّة عميقة .
ففي النتيجة، يُعدّ القائد آبو فيلسوفاً ومفكّراً، لا يقتصر دوره على التفكير النظري فقط، بل يتجاوز ذلك لمساحات شاسعة، حيث العمل الثوري المستمر الذي يسعى لتحقيق أهدافه في الواقع، رغماً من القمع والمصاعب التي يواجهها، وهذا التفكير الثوري يعكس قوته العقليّة والإبداعيّة التي لا تتوقف عن التطور والابتكار.
– ضرورة إعادة التفكير في الخيارات المطروحة:
ختاماً ، إنّ فلسفة القائد عبد الله أوجلان حول “الأمة الديمقراطية” و “المجتمع الديمقراطي ” و” الكونفدرالية الديمقراطية” و “الحداثة الديمقراطية” تستحق التقدير ، و النقد الجاد بعيداً عن التشويه و التسطيح ، و إذا كان التاريخ قد أنصف قادة آخرين حملوا لواء السلام و التغيير عينه فإنّ الوقت قد حان لمراجعة جديّة لفكر القائد عبد الله أوجلان ، فمحور فكرته حول الكونفدرالية الديمقراطية هو الدعوة لإيجاد حلول بديلة للصراعات التي عصفت في عموم الشرق الأوسط لأكثر من قرن ، و لا بدّ من تسليط الضوء بإمعان ، من خلال النقاشات الموضوعيّة حول فشل الدولة القوميّة ، فالقائد عبد الله أوجلان قدّم لنا فلسفة حيّة مساهمة إلى حدّ كبير في بناء شرق أوسط جديد ، قادر على التعايش و التنوع و العدالة.
ولكن، هل ستُكلل هذه الخطوةُ التاريخيةُ التي بادر بها المفكّر والفيلسوف عبد الله أوجلان بالنجاح في حل القضية الكردية في تركيا، والاعتراف بحقوق الكرد دستوريّاً؟
هل ستنجح هذه الرؤية في تحدي الأنظمة القديمة؟
هل ستسهم هذه الأفكار في إيجاد نموذج بديل يمكن أن يحقق الاستقرار والتقدم؟
ماذا قدّم أولئك المهاجمون الشرسون لأفكار وأطروحات القائد عبد الله أوجلان للشعب الكردي على وجه الخصوص، وللعالم على وجه العموم؟
هل ستنجح فلسفة القائد عبد الله أوجلان في تجسيد ” الحداثة الديمقراطيّة ” بعيداً عن المفاهيم القديمة؟
هل سيكون هذا الفكر نقطة تحوّل في أزمة الشرق الأوسط التي تتجاوز حدود القوميّة والتسلطيّة؟
هل الذهنيات الأحاديّة ذات اللون الواحد والتي تؤدي إلى الفاشيّة، ستتصدى المسرح ثانية، وبالتالي، ستشهد فصلاً آخر من الصراع الذي قد ينتهي بحرب مدمّرة تُلحق الضرر بالجميع؟
ستبقى هذه الاستفهامات الكبرى قائمة ومطروحة، والإجابة عليها تتطلّب تفكيراً عميقاً ومناقشةً جادّةً، ولكن وبلا ريب، يجب أن تكون موضوعيّة وشفافة وبعيدة عن الاتهامات العاطفية والتقليدية والعدائيّة.