المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

من سجن “إيمرالي”، إلى تأملات ما بعد السجن

40

للمبادرة السورية لحرية القائد عبد الله أوجلان بقلم الكاتب: نبيل الملحم

في تاريخ الحركات الثورية، نادرًا ما نجد زعيمًا سياسيًا تحوّل من قائد عسكري إلى مفكر وفيلسوف سياسي.. قد يكون عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكوردستاني هو أحد هؤلاء الاستثنائيين، فمنذ اختطافه عام “1999” بتواطؤ من نظام حافظ الأسد ومنظومته الاستخبارية، ونقله إلى السجن الانفرادي في جزيرة إيمرالي، وجد نفسه في عزلة قسرية تحرمه من الأرض والناس، لكنها في الوقت نفسه وفّرت له فسحة للتأمل، والكتابة، وإعادة النظر في مسار ثورته، ما حوّل السجن إلى فضاء لتأملات فككت جدران الزنزانة ليغدو “حرّاً”، بل أكثر تحرراً من سجّانيه.
هذه العزلة لم تُطفئ صوته، بل جعلته أكثر حضورًا عبر الأفكار والنصوص التي صاغها، والتي أصبحت أساسًا لمشروع فكري وسياسي جديد، ممتد من الثورة المسلحة إلى فلسفة الأمة الديمقراطية. فالسجن لم يكن مجرد مكان عقاب، بل مختبر لإعادة التفكير في الحرية، السلطة، والنضال.
حال الباحث عبد الله اوج آلان (واحب مناداته بـ آبو)، لم يختلف وإن لم يتطابق مع شخصيات ثورية، كان ما بعدها غير ما قبلها بالنسبة لشعوبها، وحتما حين يتصل الأمر بمن تحوّلوا إلى رموز لشعوبهم سيحضران إلى أذهاننا “نيلسون مانديلا” و”المهاتما غاندي”، فالأول قبل السجن، كان ناشطًا سياسيًا يقود مقاومة ضد نظام الفصل العنصري باستخدام استراتيجيات المقاومة المدنية والعسكرية، وأثناء السجن، طور رؤية أكثر شمولية للسلام والمصالحة، وأدرك أن العدالة لا تتحقق بالقوة فقط، بل من خلال بناء مؤسسات دولة ديمقراطية وإشراك الخصم في الحوار. أصبح مانديلا رمزًا عالميًا للمصالحة والتسامح، وتجاوز خطاب المقاومة المسلحة التقليدي.
أما “المهاتما” فقد سجن عدة مرات خلال مقاومته الاحتلال البريطاني في الهند، بإجمالي سنوات تتجاوز ستة سنوات. قبل السجن، كان ناشطًا سياسيًا، قانونيًا، لكن الاعتقال المتكرر أتاح له تطوير، ما عُرف بالصبر السياسي وفلسفة اللاعنف. استخدم غاندي السجن كفرصة للتأمل الروحي، والكتابة، والتواصل مع زملائه عبر الرسائل والنصوص الفكرية، وهكذا أصبحت فلسفة اللاعنف حجر الزاوية لحركة الاستقلال الهندية، وتجاوزت حدود الهند لتؤثر على حركات عالمية لاحقة مثل الحقوق المدنية في أمريكا.
ربما ليس من حقي أن أبدي وجهة نظري في كتابي الحواري الذي كان لي مع “آبو”، والذي يحمل عنوان “سبعة أيام مع آبو”، فالكتاب بات بذمة التاريخ وملكاً للقارئ، ولم تعد ملكيتي له تتخطى الإحساس بأنني سجّلت لحظات هي الأكثر نزاهة وعصف ذهني من سواها، غير أن المسافة في الزمن ما بين صدور الكتاب واللحظة، كما المسافة ما بين “آبو” الطليق، و”آبو” في تأملات سجنه، ربما ستساعدني في الخطو نحو عتبة التحوّل في مسيرة هذا الرجل.
في ذاك الحوار المكثف، والذي انتهى إلى ضفتي كتاب، نلمس انتقالًا من خطاب الثورة المسلحة إلى نبرة حوار فلسفي عميق.. فيه لم يعد أوجلان لغة البندقية والشعارات، بل انفتح على الأسئلة الكبرى: عن التاريخ، الحضارة، الحرية، والوجود الإنساني.
الحوار لم يكن مجرد تسجيل لكلمات زعيم محاط بالمخاطرة، بل وثيقة تأسيسية للتأملات الكبرى التي سيكتبها لاحقًا في سجنه، عن ميزوبوتاميا، الحضارات الشرقية القديمة، وإمكانات أن يقدم الشرق الأوسط نموذجًا مختلفًا للتحرر الإنساني إذا تحرر من أسر الدولة القومية.
الفلسفة العملية
“سبعة أيام مع آبو” لم يكن شهادة فقط، بل نقطة انعطاف: من الثورة كفعل مسلح، إلى الثورة كفعل معرفي وفلسفي، فقد أظهر في ذاك الحوار أن النضال لا يقتصر على القوّة، بل يشمل بناء الوعي الاجتماعي، وإشراك المجتمع في عملية التحرر.
كان ذلك قبيل فترة وجيزة من اختطافه مكبّلاً، ومحطات التلفزة تنقل وقائع العملية التركية الأكثر قذارة في تاريخ تركيا، فيما ساحات العالم ترفع صوره مرددة (الحرية لـ آبو)
ومن بعدها كان السجن، في الجزيرة المطوّقة بالحراسات وأمواج البحر والعزل عن العالم.
ـ أقول:
ـ العزل عن العالم.
ثم اتراجع عن هذا التعبير، فجزيرة إيمرالي، حيث السجن الانفرادي، كانت بمثابة العزلة القصوى، لتتحوّل العزلة إلى مختبر وجودي وفكري، بل ومواجهة الذات ومن ثم إعادة مواجهة صراع شعبه مع الدكتاتورية التركية بطريقة لم يسبق لها مثيل.. في هذا المختبر، أعاد تقييم أدوات النضال.
وحوّل القيود الجسدية إلى قوة فكرية
وطوّر نموذج جديد للزعامة يعتمد على الفكر والتأمل لا على القوة أو السلاح وحدهما.
في هذا المختبر( أيمرالي) صاغ لزعامته شكلاً جديداً فالقوة لا تأتي من السلاح، بل من القدرة على إعادة تشكيل المجتمع، تمكين المرأة ونيلها حريتها، وتعليم الجماعة أدوات الحكم الذاتي.
وفي هذا المختبر أعاد قراءة التاريخ كنصّ حيّ أستلهِمه من ميزوبوتاميا، بوصفها مهد الحضارات، استلهم أفكارًا عن الحرية والتنظيم الاجتماعي، فالتاريخ ليس مجرد حدث، بل نسق تجارب قابلة للتطبيق في الحاضر.
وفي هذا المختبر صاغ بكل الجدّية نقده الفلسفي للسلطة المركزية، عبر قراءته المعمّقة للحضارات القديمة التي شهدت هياكل مركزية قوية، هياكل لم تحرر الإنسان بل باتت العبودية المزيّنة بخطاب أخلاقي، يفتقد إلى أخلاقيته في اللحظة التي يحوّل الدولة إلى سجن، والسلطات إلى جزارين، ما ساقه إلى الاشتغال على النموذج البديل للدولة في تحررها الاجتماعي والسياسي، فالحرية تتحقق عبر المشاركة الشعبية، المساواة بين الجنسين، والتوازن مع الطبيعة، أما عن الشرق الأوسط فهو قادر على أن يصبح مختبرًا للتحرر الإنساني إذا تجاوز قيود الدولة القومية، انتقالاً إلى الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية.
نتيجة تأملات المفكر أوجلان في السجن والتاريخ أدت إلى صوغ نموذج “الأمة الديمقراطية” على النحو التالي. رفض الدولة القومية، والتركيز على التنظيم الذاتي واللامركزية، وهذا يحمل فيما يحمله سلطة أفقية وتمكين المجتمعات المحلية. وتكون المرأة أساس أي مجتمع ديمقراطي وشرط للحرية
وإعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والطبيعة.و فهم الماضي لتحرير المستقبل. إعلان وقف الكفاح المسلح وقد تحوّلت الفلسفة عنده إلى سياسة
تلك التأملات، حوّلت الفلسفة إلى سياسة، داعيًا إلى حل سلمي لإنهاء الصراع الكوردي-التركي.. كان هذا الإعلان تحولًا استراتيجيًا، يتجاوز الصراع المسلح ليصبح تطبيقًا عمليًا لفلسفة السجن، أما خطوطها العريضة فربما يمكن شملها بالعناوين التالية:

العنف وحده لا يصنع التحرر. وقف السلاح لم يكن استسلامًا، بل كان تبديل أداة النضال، من البندقية إلى الوعي، ومن السرية العسكرية إلى العلنية السياسية. خلق بيئة مواتية للحوار السياسي. مواجهة الشوفينية التركية بتحديات في تنفيذ سياسات شاملة تجاه المجتمع الكردي. إظهار أن الزعيم يمكن أن يمارس تأثيره من خلال الفكر وليس القوة وحدها.
المفارقة أن الزعيم أوجلان أصبح أكثر حضورًا من كثير من الساسة الأحرار، وهو في أقصى درجات العزلة.. من زنزانة صغيرة في جزيرة معزولة، أعاد صياغة خطاب حركة سياسية واجتماعية واسعة. لم يعد مجرد زعيم كردي، بل أصبح مفكرًا عالميًا يُقرأ في الجامعات الغربية، وتٌستلهم منه حركات تحررية ونسوية وبيئية. وأستطيع الجزم أن الثورة المسلحة تحولت إلى فلسفة للتحرر من خلال رحلة القائد أوجلان من «سبعة أيام مع آبو»، فوقف الكفاح المسلح يمثل انتقالًا من الفعل العسكري إلى الفعل الفلسفي والسياسي.
علاوة على ذلك السجن الذي أرادته الدولة قبرًا سياسيًا، تحوّل إلى منصة للتأمل والتأثير. استطاع المفكر والفيلسوف أوجلان إعادة تعريف معنى الزعامة والنضال، ليبرهن أن الحرية تتحقق عبر الفكر والفعل الاجتماعي المبدع، وليس عبر القوة وحدها ،استطاع أوجلان من زنزانة إيمرالي صياغة رؤية لتحرر البشرية، مستلهماً من تاريخ الشرق الأوسط وحضاراته القديمة، ومترجمًا ذلك إلى مشروع الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية، نموذجًا للحرية والمشاركة والعدالة الاجتماعية.
الآن وأنا أستعيد قراءة فلسفة اوجلان، يحلو لي أن أتوجه بالشكر للدكتاتورية التركية، وقد منحت أوجلان الزنزانة، فمنحنا فضاءات للغد، قد تضيف إلى علومنا علماً جديداً، يضاف إلى ما علّمنا إياه نيلسون مانديلا، والمهاتما غاندي، وكليهما جعلا التاريخ ما بعدهما غير ما كان حاله بعدهما، وهذا حال صديقي “آبو”
كم هي منحة عظيمة لي، أن أتجرأ وأسميه:
ـ صديقي.
وأنا أرغب اللقاء مع عبدالله أوجلان بهذا الشعار الذي أطلقته الحملة انضم للحملة من أجل انجاح الدعوة والوصول إلى تحقيق نداء المفكر والفيلسوف الأممي “السلام والمجتمع الديمقراطي “