المفكر والفيلسوف الأممي عبدالله أوجلان وإعادة تعريف مفاهيم المقاومة والتحرر

للمبادرة السورية لحرية القائد عبد الله أوجلان الكاتب: إسلام ضيف .. كاتب وصحافي مصري من لبنان
بعد أكثر من 26 عاماً في السجن الانفرادي، يظل “عبد الله أوجلان” رمزاً عالمياً للنضال من أجل حقوق الشعوب. دعوته المستمرة للحوار، الديمقراطية، وحل الأمة الديمقراطية، تعكس مدى ارتباط حل القضية الكردية بمستقبل المنطقة.
اختطاف أوجلان في 1999 كان نتيجة عملية مدعومة من تحالف أجهزة مخابرات دولية وإقليمية: الولايات المتحدة الأمريكية، وكينيا، واليونان، وتركيا، وحتى الموساد الإسرائيلي. تم اختطافه من السفارة اليونانية في نيروبي وتسليمه إلى تركيا، ليحتجز في سجن إمرالي التركي في عزلة تامة.
منذ عقود، يعيش الشعب الكردي في ظل سياسات القمع والهيمنة بالشرق الأوسط، وخاصة في تركيا، حيث كان القمع السياسي والثقافي والاقتصادي جزءًا من المنظومة الرسمية للحكم. برز “عبد الله أوجلان” في هذا السياق كرمز للنضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكمفكر ثوري يطرح حل عادل للقضية الكردية من خلال مفاهيم الديمقراطية التعددية.
المفكر الأممي أوجلان الذي نشأ في بيئة ريفية بسيطة، وتعرف منذ صغره على واقع القمع الذي تعانيه القرى الكوردية. لم يكتفِ بالنضال داخل الحدود الكردية فحسب، بل ارتبط اسمه بقضايا العدالة والتحرر على مستوى المنطقة والعالم، وجعل من القضية الكوردية قضية أممية.
تأثر المناضل أوجلان بشكل كبير بثورات الشباب في الستينيات وبالأوساط اليسارية. كما تأثر برموز الحركة الثورية الكوردية، ومن أبرزهم “ماهر چايان”. في عام 1972، قاد أوجلان اعتصاماً في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة احتجاجاً على مقتل ماهر ورفاقه في قرية قزل دره، وهو ما أدى إلى اعتقاله. بعد إطلاق سراحه، بدأ في جمع الكيانات اليسارية والاشتراكية الثورية تحت سقف واحد، إلا أن محاولاته لم تُثمر، فبدأ في تشكيل مجموعة جديدة مهدت لاحقاً لتأسيس حزب العمال الكوردستاني. فقد بدأ انذاك بتدوين أفكاره وتحليلاته حول الإمبريالية والاستعمار، وتجربة النضال الكردي، وتأثير القمع التركي على المجتمع الكردي. هذه المرحلة كانت مرحلة تشكيلية أساسية لشخصيته الفكرية والسياسية، إذ كتب أول وثيقة مكتوبة للمجموعة مع محمد خيري دورموش عام 1975 بعنوان “تقييمات حول الإمبريالية والاستعمار”، والتي شكلت الأساس النظري لحركة الكفاح الكردية لاحقاً.
حزب العمال الكوردستاني وتجربة الكريلا
جاء تأسيس الحزب في سياق الانقلابات العسكرية التركية في السبعينيات والثمانينيات، والقمع الوحشي الذي استهدف الكرد والنشطاء اليساريين على حد سواء. عُقد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب في قرية “فيس” بديار بكر، معلناً عن بداية تنظيمية تهدف إلى مقاومة القمع التركي وتحقيق التحرر الوطني للكرد، متبنياً حينها المنهج الماركسي اللينيني.
بدأ حزب العمال الكردستاني عملياته العسكرية الواسعة عام 1984، كوسيلة لمواجهة القوة العسكرية التركية. القمع الوحشي للجيش التركي وتهجير السكان، دفع شريحة واسعة من الشباب الكردي للانضمام إلى الحزب. كما تلقي تدريبات أولية في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، قبل أن ينشئ في عام 1986 أكاديمية معصوم قرقماز، أول معسكر تدريب رسمي للحزب في البقاع، لكن هذا الوجود انتهى في التسعينيات.
هذه المرحلة اللبنانية كانت التحول النوعي في مسيرة حزب العمال، إذ شكّلت البيئة التدريبية والسياسية في وادي البقاع الأرضية التي نُحت عليها هيكل الحزب كقوة مقاومة منظمة، عسكرية وفكرية. ما حدث في قلعة الشقيف (أرنون) خلال الاجتياح الإسرائيلي 1982 يكشف لحظة فارقة جمعت الفلسطينيين والكورد، إلى جانب متطوعين أمميين، في مقاومة مباشرة ضد الاحتلال. هذه التجربة توثّق البعد الأممي المبكر لحزب العمال الكوردستاني، حيث لم يكن مجرد تنظيم كردي قومي، بل طرف منخرط في الحركة التحررية العالمية.
فلسفة أوجلان وحل الأمة الديمقراطية
صاغ أوجلان فكرة “الأمة الديمقراطية”، التي ترى أن الحل السياسي للقضية الكردية لا يتم عبر الحلول القوموية، بل عبر نظام ديمقراطي يضمن حقوق جميع الشعوب والمكونات، استناداً إلى تحليلات موسعة حول تاريخ المنطقة وتنوعها الثقافي والحضاري.
تحليل أوجلان يرتكز على فهم معمق للصراعات في الشرق الأوسط: النزعة الشوفينية القومية، القمع الاقتصادي، التهميش الاجتماعي، والسياسات الإمبريالية للدول الكبرى. الحل الديمقراطي الذي يقترحه عبد الله أوجلان يقوم على رؤية شاملة تتجاوز منطق الدولة القومية التقليدية، حيث يضع في صلب مشروعه مبدأ اللامركزية وتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بنفسها، بما يضمن مشاركة فعلية ويحول دون إعادة إنتاج أنماط السلطة القمعية.
كما يرى أن الفردية الرأسمالية تمثل أحد أخطر أشكال إنكار المجتمع. فالفرد المنغمس في أنانية السوق الليبرالية يظن نفسه حراً، بينما يعيش في الواقع أعتى أشكال العبودية. إذ أن الإيديولوجيا الليبرالية تقدّم وهم الحرية الفردية المطلقة، لكنها في جوهرها تقوم على تفكيك الروابط الاجتماعية والتاريخية، وتحويل المجتمع إلى مجرد بيئة استهلاكية مفككة. لذلك، يدعو أوجلان إلى بناء الفرد الكومونالي، أي الفرد الذي يكتسب حريته من خلال انخراطه في بنية جماعية تشاركية، لا من خلال انسلاخه عن الجماعة.
ينطلق هذا الفهم من مفهوم الكومين، الذي يعدّه أوجلان الخلية الأساسية للحياة الاجتماعية. فالكومين ليس مجرد وحدة إدارية صغيرة، بل هو مدرسة ديمقراطية، وساحة يتربى فيها الإنسان على القيم المشتركة مثل العدالة والمساواة والتعاون. وهو أيضاً فضاء لإعادة تعريف الذات الجماعية بعيداً عن مؤسسات الدولة التقليدية. كلما كانت هذه الخلية أكثر حيوية وصلابة، كان المجتمع أكثر حرية وقدرة على مقاومة النزعات السلطوية والمرأة كجوهر للحرية وبدون حرية المرأة لن تكون ظواهر للحرية الحقيقية.
لان كل أشكال السلطة والهيمنة التاريخية سواء كانت قومية أو طبقية أو دينية قد بدأت أولاً من إخضاع المرأة وتحويلها إلى “أول مستعمرة في التاريخ”. لذلك فإن أي مشروع تحرري لا يضع مسألة المرأة في قلبه محكوم عليه أن يعيد إنتاج البنية السلطوية نفسها. هكذا ينطلق أوجلان من تحليل تاريخي للهيمنة الذكورية، فالنظام السلطوي لم يسيطر على المجتمع إلا بعد أن فصل المرأة عن دورها الحيوي في الحياة الاجتماعية، وحولها إلى أداة إنجاب وخدمة. في نظره، قمع المرأة هو أخطر أشكال الاستعمار الداخلي، لأنه يزرع الخضوع في نسيج العلاقات الإنسانية نفسها. ومن هنا، فإن مقاومة الذهنية الذكورية ليست فقط صراعًا بين الجنسين، بل صراع وجودي ضد منطق السيطرة.
من هنا فإن النضال النسوي لا يمكن أن ينحصر في المساواة الشكلية أو الحقوق القانونية فحسب، بل يجب أن يتجسد في ثورة ذهنية شاملة تغيّر وعي الرجل والمرأة معاً. فالمجتمع الديمقراطي لا يُبنى إلا عبر تفكيك العلاقات السلطوية المتجذرة في الثقافة والأخلاق والعائلة. ولهذا السبب، يقول إن “حرية المرأة تعني حرية المجتمع”. لقد كانت دعوات أوجلان المتكررة، ولا تزال، تعبيراً عن إرادة سلام أصيلة، لا تستند إلى ضعف أو انكسار، بل إلى إيمان راسخ بأن الشعوب، وفي مقدمتها الشعب الكردي، قادرة على العيش المشترك ضمن إطار ديمقراطي يعترف بالاختلاف ويحوّله إلى مصدر غنى لا إلى بؤرة نزاع. إن هذا الوعي العميق هو ما يجعل خطابه يتجاوز حدود القضية الكوردية ليشكل مشروع إنساني شامل، يلامس جوهر أزمة الشرق الأوسط الممزق بين الاستبداد والحروب.
اليوم، تقف تركيا أمام لحظة حاسمة. فالكرة في ملعبها، ولا مجال لإنكار ذلك. إن إصرار أنقرة على التمسك بسياسات القمع والإنكار لن ينتج سوى المزيد من النزيف البشري والاقتصادي والسياسي، ولم يحقق لها أمناً حقيقياً. التاريخ لا يرحم، والفرصة ما زالت قائمة لبناء مجتمع ديمقراطي يتسع للجميع. هذا هو نداء أوجلان الأخير، وهذا هو التحدي الذي يواجه تركيا اليوم: أن تختار بين البقاء أسيرة لدوامة القمع والعنف، أو أن تنطلق نحو أفق جديد.
كل يوم يقضيه القائد أوجلان في الأسر يحمل رسالة صامتة للعالم عن ثبات المبادئ أمام القمع. إن حريته الجسدية هي استعادة لحقه في حياة طبيعية، في الحركة، في لقاء أحبابه ودعم شعوبه.
الحرية للمناضل الأممي عبد الله أوجلان ومع انطلاق الحملات واهدافها لتحقيق السلام بحريته الجسدية انضم واشجع الحملة العالمية “أرغب اللقاء مع عبدالله أوجلان” وفاء وتقدير لما بذله من أجل الإنسانية.