من زرادشت إلى أوجلان: مقارنة في دعوة العقل والحرية والتحرر من الظلام
مقدمة:

من قلب الشرق، وبين جبال إيران القديمة وسهول كردستان المعاصرة، نهض صوتان ثوريان بفارق زمني يزيد على ألفي عام: زرادشت الحكيم، وعبد الله أوجلان المفكر الثائر. كلاهما تحدّث عن الحرية، العقل، المرأة، والنظام العادل، لكن بأسلوبٍ ووسيلةٍ تتناسبان مع زمانيهما.
أولاً: ثلاثية الحياة المثالية
زرادشت بنى فلسفته على ثلاثية أخلاقية خالدة: “فكرٌ صالح، قولٌ صالح، عملٌ صالح” (Humata, Hukhta, Hvarshta). يرى أن انسجام الفكر والقول والعمل هو ما يصنع الإنسان الصالح والمجتمع العادل.
أما أوجلان، فيدعو إلى ثلاثية مقاومة: “فكر حر، خطاب مقاوم، فعل تحرري”، مؤكدًا على أن التحرر يبدأ من العقل وينعكس في القول والفعل. كلاهما يرى أن الإصلاح يبدأ من الذات ويتحقق عبر الصدق في الحياة اليومية.
ثانيًا: المرأة – المعيار الأخلاقي لتحرر المجتمع
في الغاثات، تظهر المرأة الزرادشتية كمؤمنة، معلّمة، وشريكة في الخير. لم تكن أقل من الرجل في القيمة الروحية أو المسؤولية الأخلاقية.
أما عند أوجلان، فالمرأة ليست فقط شريكة بل هي جوهر الثورة الديمقراطية. يعتبر أن القمع الحقيقي بدأ يوم استُعبدَت المرأة، وأن تحررها هو مفتاح كل تحرر. من هنا، تصبح المرأة معيارًا لصحة المجتمع ورمزًا للنهضة.
اقتباس من الغاثات: “المرأة التي تختار الصدق والعدالة، تكون قريبة من نور أهورامزدا.”
اقتباس من أوجلان: “إن لم تتحرر المرأة، فلن يتحرر الرجل، ولن يكون هناك سلام.”
ثالثًا: السلطة والشر – رفض الاستبداد الديني والسياسي
زرادشت رفض هيمنة الكهنة المنحرفين الذين أفسدوا الدين بالعنف والخرافة، ودعا إلى دين يقوم على حرية الضمير والعقل. ففي نظره، الخير اختيار شخصي وليس أمرًا يُفرض من سلطة.
وبالمثل، يحارب أوجلان النظام القومي السلطوي الذي يستعمل الدين كأداة قمع. يرى أن الحرية لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع بالوعي والتنظيم الشعبي، وأن الإنسان مسؤول عن تقرير مصيره، كما زرادشت تمامًا.
رابعًا: مفهوم النور والظلام
عند زرادشت، النور هو رمز للعقل والخير، ويمثّل أهورامزدا، بينما الظلام هو الجهل والكذب ويمثل أنكرامانيو، روح الشر.
عند أوجلان، يُستخدم مفهوم النور بشكل رمزي أيضًا: هو الوعي والمعرفة والثورة الفكرية، والظلام هو منظومة الهيمنة، القومية، الذكورية، والدينية. معركة الإنسان عند الاثنين ليست فقط مع الخارج، بل مع الجهل والخضوع في داخله.
خاتمة:
من يقرأ الغاثات ويقرأ مرافعات أوجلان، يدرك أن الفارق في الزمن لا يعني اختلافًا في الجوهر. فكلاهما يدعوان إلى تحرير الإنسان من القيود الداخلية والخارجية، والعودة إلى نور العقل، واحترام المرأة، وبناء مجتمع تسوده العدالة والوعي. إن أوجلان، بلغته السياسية المعاصرة، يكمل رسالة زرادشت ولكن بأدوات العصر الحديث.