الشرق الأوسط التنوع الملعون: كيف تحولت الانتماءات الدينية والطائفية والقومية والعرقية والسياسية إلى ساحة انتقام دموي – قراءة في ضوء فكر المفكر أوجلان

يقول الفيلسوف جان جاك روسو : من الصعب جدًا أن يتحقق سلام أو أمان بين شخصين يعتقد كل منهما أن الله غاضب على الآخر !!
ويقول الكاتب عبد الرزاق الجبران : من يعلمك أن الآخر كافر هو يسرق إيمانك … ومن يعلمك أنه مباح في دمه وعرضه وأرضه هويسرق إنسانيتك !!
ونجد صدى عميق لتلك الأفكار التي عبر عنها روسو وعبد الرزاق في قلب رؤية المفكر عبد الله أوجلان الثورية للوجود الإنساني والاجتماعي لكن من خلال عدسة نقدية جذرية تتجاوز السطح وتضرب الأعماق البنيوية للصراع فحقيقة ان رؤية المفكر أوجلان الثورية تتجلى في معظم مؤلفاته مثل مانيفستو الحضارة الديمقراطية وغيرها حيث يقدم من خلالها شرحا دقيقا لكيفية تحول الدين والهوية إلى أدوات قمعية في يد السلطة وكيف أن صناعة الآخر الكافر أو المباح دمه ليست سوى آلية من آليات السيطرة الحديثة التي تدمر جوهر الإيمان والإنسانية معا حيث يرى المفكر أوجلان أن العقلية الدولتية ذلك النمط من التفكير الذي يختزل الحياة في هرمية السلطة والقومية هو المسؤول عن تحويل الاختلافات الدينية والثقافية إلى ساحات تصفية وحرب دائمة ففي تحليله للتاريخ الكردي والشرق أوسطي يظهر كيف أن الأنظمة الحاكمة سواء كانت قومية تركية أو عربية أو فارسية كانت تستخدم نفس الخطاب الديني كسلاح لتبرير القمع والإبادة حيث يقول المفكر أوجلان في هذا الصدد : الدين عندما يصبح أداة بيد الدولة يفقد روحه التحررية ويصبح سجنا للضمائر. وهذا التحليل حقيقة يقترب من رؤية الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول علاقة السلطة بالمعرفة حيث يقول تصبح الحقيقة الدينية بيد الدولة أداة لصناعة الواقع الاجتماعي وفقا لمصالح النخب الحاكمة.
ولكن يؤكد المفكر أوجلان أن الأمر الأكثر إيلاما هو كيف أن هذه الآلية لا تقتصر على تبرير العنف ضد الآخر المختلف فحسب بل تمتد لتسرق من الإنسان إيمانه الحقيقي وإنسانيته الجوهرية فيقول بهذا الصدد : أنه عندما يتحول الإله في الخطاب الرسمي من مفهوم للرحمة والعدل إلى شرطي عقائدي يبارز الأعداء فإن ذلك يشوه الروح الدينية في أساسها. ومن هنا يتقاطع المفكر أوجلان مع الفيلسوف الألماني نيتشه في نقده لأخلاق العبيد لكنه يضيف بعدا طبقيا واجتماعيا حين يربط بين تشويه الدين وضرورات الهيمنة الرأسمالية الحديثة ففي تجربة روجافا (شمال شرق سوريا) حيث تم تطبيق أفكار أوجلان عمليا نجد نموذجا لمقاومة هذا التشويه عبر إحياء الإسلام التحرري الذي يعترف بالتعددية ويتبنى قيم العدالة الاجتماعية. ولكن المأساة الكبرى كما يصورها المفكر أوجلان تكمن في أن عملية تجريد الآخر من إنسانيته لا تدمر الضحية فقط بل تدمر الجلاد أيضا. وهذا ما يتضح في تحليله للجنود الأتراك الذين ارتكبوا مجازر ضد الأكراد حيث أكد أنهم أصبحوا ضحايا لنظام عنف يسرق منهم إنسانيتهم قبل أن يسرق حيوات ضحاياهم. وفي هذا الصدد يقترب المفكر أوجلان من تحليل الفيلسوفة حنة آرندت لتفاهة الشر لكنه يضيف بعدا بنيويا حين يربط بين هذه الظاهرة وأساسات النظام العالمي القائم على الدولة القومية والرأسمالية حيث يقول المفكر أوجلان: أنه لا يوجد جلاد حر لأن يد القتل تقتل حرية حاملها أولا . فحقيقة الحل الذي يطرحه المفكر أوجلان لهذه المعضلات الوجودية ليس حلا فرديا أو روحانيا فحسب بل هو مشروع مجتمعي وسياسي شامل يقوم على الكونفدرالية الديمقراطية وهذا النموذج حقيقة تم تطبيقه جزئيا في روجافا ويقوم على ثلاث ركائز أساسية: التحرر من عقلية الدولة القومية وإحياء الديمقراطية المباشرة على المستوى المحلي وبناء اقتصاد تعاوني يقوم على العدالة البيئية والاجتماعية والمشاركة الأخلاقية (الدين كإطار قيمي لا كسلطة ) وفي هذا السياق يصبح السلام ليس مجرد توقف للحرب بل تحولا جذريا في بنية العلاقات الاجتماعية كما يقول المفكر أوجلان: السلام الحقيقي لا يكون بين دول بل بين مجتمعات تحررت من أوهام السيادة والقومية. في السياق السوري تظهر إشكالية الآخر ( الكافر والمباح دمه و النصيري والقسدي والاسدي والدرزي والعلوي…الخ) بأبشع صورها كأداة لتفتيت النسيج المجتمعي وتبرير العنف الممنهج وأعمال القتل فالصراع السوري الذي بدأ كحراك شعبي سلمي تحول إلى حرب بالوكالة استخدمت فيها الأطراف المتصارعة من النظام إلى المعارضة المسلحة إلى الحركات الإسلامية مرورا بالقوى الإقليمية والدولية الخطاب الديني الطائفي والمذهبي كسلاح لتعبئة المقاتلين وتبرير الفضائع يقول المفكر عبدالله أوجلان : أنه تم توظيف الهويات المذهبية والعرقية كأدوات لتبرير العنف الممنهج . وقد شهدنا كيف تحول العلويون رغم كونهم أقلية تاريخيا إلى هدف للكراهية والانتقام الجماعي بسبب ارتباطهم المفترض بالنظام بينما تحول الأكراد إلى خطر انفصالي يجب سحقه وأصبح كل من يتحدث بلغة قسد أو الدروز أو العلويين أو النظام أو يمجد ماضيه هدفا مشروعا للتصفية وقد شهدت سوريا مؤخرا مجازر مروعة ضد العلويين في مناطق الساحل لم تكن هذه المجازر مجرد رد فعل على قمع النظام بل تحولت إلى ممارسات انتقامية تغذيها خطابات سياسية أو مذهبية أو تكفيرية أو عرقية جعلت من الإنسان هدفا لمجرد انتمائه المذهبي أو السياسي أو العرقي وفي الوقت نفسه تعرض الأكراد في مناطق مثل عفرين وسري كانيه لعمليات تطهير عرقي ممنهج ليس فقط من قبل النظام بل أيضا من قبل فصائل معارضة ادعت الديمقراطية بينما مارست أبشع أشكال العنف القومي ضد الأكراد حيث يقول الفيلسوف إيمانويل ليفيناس :أن اختزال الآخر إلى فئة (كافر، إرهابي) هو جريمة ضد الإنسانية. وهذه الديناميكيات كما يحللها المفكر أوجلان هي نتاج العقلية الدولتية التي تختزل الوطن في طائفة أو عرق وتجعل من الاختلاف تهمة تستحق الإبادةحيث يقول المفكر أوجلان :عندما يصبح الإله حكرا لطائفة يتحول البشر إلى وقود للحروب. فالنظام السوري رغم ادعائه العلمانية حول الطائفية إلى أداة حكم فبينما استخدمت الجماعات الإسلامية المتطرفة مفهوم التكفير لتسويق مشروعها السياسي حيث يقول المفكر أوجلان: أن الإيمان الذي يقتل فيه الإنسان باسم الله هو إيمان ميت قبل أن يولد. وايضا استخدمت بعض فصائل المعارضة التابعة لتركيا الخطاب المذهبي والعرقي والسياسي (كالاسدي والقسدي والعلوي والمؤيد…الخ) كسلاح للتعبئة فكانت النتيجة تدميرا ممنهجا لفكرة المواطنة ذاتها حتى أن مجرد التعبير عن رأي مختلف أو مجرد الاشتباه بالولاء للنظام أو قسد أصبح سببا كافيا للاختطاف أو القتل خارج نطاق القانون وقد رأينا كيف حولت الدولة التركية الجنود الأتراك والمعارضة السورية إلى آلات قتل عبر تخويفهم من (الأكراد الانفصاليين أو الأكراد القنديليين) . في مواجهة هذا الانهيار تظهر أهمية مشروع المفكر أوجلان القائم على الأمة الديمقراطية التي تتجاوز الطائفية والقومية الضيقة حيث تقدم تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا نموذجا عمليا لفكر المفكر أوجلان حيث حاولت قوات سوريا الديمقراطية بناء نظام متسامح يقوم على العقد الاجتماعي التعددي بدلا من الهيمنة الطائفية أو القومية معترفة بكل مكونات المنطقة من عرب وكرد وسريان وتركمان لكن هذا النموذج واجه تحديات جسيمة ليس فقط من داعش والنظام والمعارضة بل وأيضا من القوى الإقليمية التي رأت في هذا المشروع التعددي تهديدا لنموذجها السلطوي فهذه التجربة وإن كانت ناقصة تثبت أن الطريق الوحيد للخروج من المأزق السوري هو تفكيك ثقافة الآخر الملعون واستبدالها برؤية إنسانية تقبل التنوع لا كتهديد بل كأساس للوطن الحقيقي وتساهم في بناء سلام حقيقي يقوم على العدالة الانتقالية والاعتراف المتبادل. فكما يقول المفكر أوجلان : لا حرية لشعب يضطهد شعبا آخر، وهي مقولة تكتسب أبعادا مأساوية في سياق الحرب السورية حيث تحول الجميع إلى جلادين وضحايا في نفس الوقت .
في النهاية يمكننا أن نقول ان فلسفة المفكر أوجلان تقدم إطارا شاملا لفهم كيف أن خطاب الكراهية الدينية أو العرقية أو السياسية ليست سوى عرض لمرض بنيوي أعمق وهو سيطرة العقلية الدولتية والرأسمالية على حياتنا ومقاومة هذا النظام لا تكون فقط بالرفض بل ببناء البدائل الملموسة التي تعيد للإيمان روحه التحررية وللإنسان إنسانيته المسلوبة كما كتب في إحدى رسائله من السجن حيث قال : أعظم جريمة ليست أن تقتل إنسانا بل أن تقنعه بأن إنسانا آخر لا يستحق الحياة. وهذه الرؤية رغم قساوتها تحمل في طياتها بذرة أمل فإذا كانت الكراهية مبنية فإن المحبة والاعتراف المتبادل يمكن بناؤهما أيضا.
من فكر وفلسفة المفكر عبدالله أوجلان
اعداد الأستاذ أنس قاسم المرفوع