المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

الأمة الديمقراطية: خطة جذرية للسلام القائم على العدالة، المواطنة، والعيش المشترك للشعبين الاسرئيلي والفلسطيني العربي مقدمة: ثقل الماضي وآفاق المستقبل

225

لا توجد قضية تحمل في طيّاتها ثقل التاريخ، ووجع الأرض، وانكسار الروح، كما تحملها القضية الفلسطينية-الإسرائيلية. ليست مجرد نزاع حول حدود أو موارد أو أمن، بل هي صرخة وجودٍ تتصارع فيها الهويات، وتُحاصر فيها الإنسانية بين خنادق الإقصاء. لكن الحقيقة التي نادرًا ما نجرؤ على الاعتراف بها هي أن هذا الصراع لا يبدأ بالصواريخ ولا بالأسوار، بل في العقل أولًا. فالحرب تُدبَّر في الذهنية قبل أن تُطلق في الجغرافيا، والسلام أيضًا لا يُزرع في الأرض قبل أن يُغذَّى في الروح. فإذا أردنا أن نُخرج هذه القضية من دوامة القهر والعنف، فعلينا أن نُعيد تشكيل ما نفهمه عن “الآخر”، لا كعدو يجب إزالته، بل كإنسان لا يمكن أن نكتمل دونه.

الفصل الأول: جذر الصراع وجذر الحل – الذهنية

الذهنية هي جذر الصراع وجذر الحلّ معًا. فالدولة القومية الحديثة، التي بُنيت على فكرة “أمة واحدة، لغة واحدة، دين واحد”، كانت دائمًا أداة للإقصاء. ومن هنا، تبدأ رحلتنا؛ ليست رحلة سلام جيوسياسية فقط، بل رحلة إنقاذ للروح الإنسانية التي أوشكت أن تُغتال بين أزقة القدس ومخيمات غزة وتلال الجليل. فلو أردنا السلام حقًا، فعلينا أولًا أن نبني ذهنية جديدة، ذهنية لا تُصنّف الناس حسب دينهم أو عرقهم، بل تراهم كأجزاء من كائنٍ واحد اسمه الإنسان، يسكن أرضًا واحدة اسمها الوطن المشترك.

هذه الذهنية لا تُبنى بالخطب الرنانة، بل بالاعتراف المتبادل: أن نعترف بأن هذا اليهودي الذي يصلي في حائط المبكى له حقّ في الوجود والكرامة، كما أن هذا الفلسطيني الذي يزرع الزيتون في جنين له حقّه في الأمن والعدالة. لا سلام من دون هذا الاعتراف، ولا اعتراف من دون الحرية والمساواة والعدالة، وهذا مثلثٌ لا يقبل النقصان.

والأرض التي نحن عليها ليست أرض صراع فقط، بل أرض حضارات تلاقت فيها دعوات الأنبياء، وسالت فيها دموع الأمهات من كل الأديان، ونضجت فيها ثمار الزيتون التي لا تسأل إن كانت تُقطف بيدين يهوديتين أو مسلمتين أو مسيحيتين. فحقيقة القدس ليست حجرًا نتنازعه، بل روحًا نُهملها حين ننسى أن المسجد الأقصى يتحدث بلغة السلام إلى الحائط الغربي، وأن كنيسة القيامة تفتح ذراعيها لكل المؤمنين بلا تمييز.

الفصل الثاني: النموذج السياسي – نحو كونفدرالية ديمقراطية

وهنا، تبرز رؤية “الأمة الديمقراطية”، كمنارةٍ في ظلمات الصراعات القومية والدينية. فالأمة الديمقراطية لا تُلغي الهويات، بل تحتضنها. لا تُذيب الفروق، بل تنسج منها سجّادة حضارية مشتركة. والنظام السياسي الأنسب لها هو “الكونفدرالية الديمقراطية”، ذلك النموذج الذي لا يفرض هوية واحدة على الكل، بل يضمن لكل مكوّن، صغيرًا كان أو كبيرًا، حقه في التعبير والحكم الذاتي ضمن إطار ديمقراطي تعاوني.

تخيل معي:

· قرى عربية في النقب تنتخب مجالسها المحلية، وتنسّق مع بلديات يهودية في مشاريع زراعية أو مائية، وجميعها مرتبطة بشبكة كونفدرالية تقرّر معًا سياسات التعليم، الصحة، البيئة.
· مدارس في حيفا تُدرّس تاريخ “عرب 48” جنبًا إلى جنب مع تاريخ الهجرة اليهودية، ليس للتنافر، بل للفهم.
· شبابًا من رام الله ويافا يشاركون في نوادٍ رياضية مشتركة، أو في تعاونيات للحرف اليدوية، يبنون اقتصادًا يخدم المجتمع.

هذا ليس حلمًا، بل هو تطبيق عملي لمشروع الأمة الديمقراطية التي ترى أن الحل لا يكمن في الدولة القومية التي تُقصي، بل في الإدارة الذاتية التي تُدمج.

الفصل الثالث: البعد الروحي – إحياء المشترك الإنساني

ولكن ماذا عن الروح؟ أليس الصراع هنا أيضًا صراع قلوب قبل أن يكون صراع جغرافيا؟ لقد تركنا الجانب الروحي يذبل بينما كنا نتشاجر على الحدود. واليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، نحن بحاجة إلى إحياء الجانب الروحي الذي يجمعنا، لا الذي يفرّقنا.

اليهودية، المسيحية، الإسلام؛ كلها تنبع من نبع واحد، نبع التوحيد، نبع الأخلاق، نبع رعاية الضعيف ونصرة المظلوم. فهل يعقل أن نُغلق أبواب السماء بينما نفتح أبواب الجحيم على الأرض؟

هنا، يجب أن نُنشئ “أكاديميات الحوار الديني”، لا كمؤتمرات رسمية تُنظّم لمرة واحدة ثم تُنسى، بل كمؤسسات دائمة، تُدرّس فيها النصوص المقدسة بروح التفسير المشترك، وتعمل على استخراج القيم الإنسانية الجامعة: التسامح، الرحمة، العدل، حب الجار حتى لو كان من “الآخر”.

تخيل “مجلس الأديان الدولي” في القدس لا كهيئة شكلية، بل كسلطة أخلاقية تُصدر فتاوى ضد العنف، وتدعو للصلوات المشتركة في الأعياد، وتدعم المشاريع الخيرية التي تخدم الفقراء بغض النظر عن هويتهم. هذا ما فعلته مبادرات صغيرة مثل “الأديان من أجل السلام” أو “الحوار اليهودي-الإسلامي في تل أبيب وحيفا”، لكننا بحاجة الآن إلى جعلها نواة لنظام روحي-سياسي جديد.

الفصل الرابع: الاقتصاد المجتمعي – تمويل السلام

ولا يكتمل هذا النظام من دون الاقتصاد. فكما أن الحرب تُموّل، فالسلام أيضًا يجب أن يُموّل. وهنا، تأتي فلسفة “الاقتصاد المجتمعي” التي تدعو إلى اقتصاد لا يخدم السوق أو الربح، بل يخدم الإنسان والطبيعة.

· تعاونيات زراعية في غور الأردن تضم فلسطينيين وإسرائيليين يعملون معًا على زراعة الخضروات العضوية، بتمويل ذاتي ودعم محلي.
· ورش عمل في الناصرة لإنتاج الملابس التقليدية بمشاركة يهود وعرب ومسلمين ومسيحيين.
· مشاريع طاقة شمسية مشتركة في صحراء النقب تُولّد كهرباءً وتُوزّع أرباحها على المجتمعات المحيلة.

كل هذا ممكن، وقد بدأ بالفعل في بعض البقاع، لكنه بحاجة إلى أن يُعمّم كجزء من نظام كونفدرالي ديمقراطي يربط الاقتصاد بالمجتمع، لا بالدولة الأمنية.

الفصل الخامس: التعليم – حجر الأساس لبناء السلام

أما التعليم، فهو الحجر الأساس. فماذا نعلّم أطفالنا؟ هل نعلّمهم أن “الآخر” عدوٌّ يجب أن يُهزم؟ أم نُريهم أن “الآخر” شريكٌ محتمل في بناء غدٍ أفضل؟

يجب أن تُدخل المدارس “دروسًا في ثقافة العيش المشترك”، تُدرّس فيها قصصٌ من الواقع: كيف أنقذ يهودٌ فلسطينيين أثناء الحرب، وكيف دافع مسلمون عن كنائس، وكيف حافظ مسيحيون على كنوز التراث اليهودي في زمن الاضطهاد. يجب أن يتعلّم الطفل في غزة أن لليهودي حقًا في الوجود، كما يتعلّم الطفل في تل أبيب أن للفلسطيني حقًا في الأمن والكرامة.

وهذا لا يُبنى على المثالية، بل على مناهج دراسية تشاركية، بدعمٍ من “مراكز بحثٍ مستقلة”، تُنشأ بصورةٍ مشتركة بين جميع المكوّنات، يُصار من خلالها إلى إعادة قراءة التاريخ وصياغته من جديد في ضوء العدالة والاعتراف المتبادل، لا من منطق الانتقام أو تغذية الكراهية. فكما لا يمكن لأي شعب أن يتحرّر وهو أسيرُ روايةٍ أحادية للتاريخ؛ تُصبح هذه المراكز فضاءً ديمقراطيًا يلتقي فيه العرب والإسرائيليون وسائر المكوّنات، لبحث جذور المأساة المشتركة وتفكيك ذهنية الدولة القومية، وبناء ذاكرةٍ تاريخيةٍ جديدة تستند إلى أخوّة الشعوب، والمجتمع الديمقراطي الإيكولوجي، وحرية المرأة، بدل إعادة إنتاج صراعات الماضي في أثوابٍ جديدة.

السلام كنمط حياة

فحقيقة السلام ليس اتفاقًا يوقّع على ورق، بل هو نمط حياة يُمارَس يوميًّا في السوق، في المدرسة، في الحي، في القلب. وهو لا يُبنى من الأعلى، بل يُنسج من الأسفل، من خلال شبكات اجتماعية، ثقافية، اقتصادية، روحية، تعيد تعريف “الوطن” ليس كحدودٍ تُحرس، بل كفضاءٍ يُشارك.
والكونفدرالية الديمقراطية، ليست مجرد نموذج سياسي، بل دعوةٌ للإنسان أن يعود إلى جوهره: ككائن اجتماعي، حر، متساوٍ، مُبدع، قادر على أن يرى في الاختلاف ليس تهديدًا، بل ثروة.
فلنبدأ من هنا، من الذهنية، من الروح، من الطفل، من التراب. ولنبنِ سلامًا لا يُهادن الظلم، بل يُحيي الكرامة. سلامٌ لا يُفرض من فوق، بل يُولد من الداخل، من رحم المعاناة، ومن شجاعة أولئك الذين يجرؤون على أن يقولوا: “أنا لا أخاف منك… أنا أريد أن أعيش معك