المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة

11

نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والاعتراف المتبادل

في مجتمعاتنا لا تزال الشعارات النارية والخطابات السياسية المُعلَنة تُستخدم كأداة للسيطرة لا للتمكين. فهي في جوهرها ليست أكثر من وهم زائف، لا يعبر عن إرادة حقيقية للتغيير، بل يكرس البقاء في دوائر التخلف السياسي والاجتماعي. هذه الخطابات، بدل أن تبني وعيا ديمقراطيا، تعمل على تفريغ المفاهيم الأساسية مثل الحقوق، والحرية، والعدالة من مضمونها الإنساني، وتحولها إلى أدوات للطاعة والانصياع.

فبدل أن ينظر إلى الإنسان كذات فاعلة ومسؤولة، يختزل إلى مجرد رعية تُدار من فوق، وتطالب بالولاء دون أن تمنح حق التفكير أو الاختلاف. وفي هذا السياق، تتحول الحقوق إلى واجبات، وتفرض الهوية الجماعية كقيمة مطلقة، بينما يجرم الاختلاف وينظر إليه كخيانة. وتسوغ التدخلات في الخصوصيات الفردية والجماعية باسم مصلحة الأغلبية، وهي أغلبية غالبا ما تصاغ وفق رؤية سلطوية لا تعترف بالتعدد أو التنوع.

هذا النمط من الخطاب، الذي تتبناه أنظمة قومية مركزية، لا يهدف إلى بناء مجتمع حي، بل إلى هندسة مجتمع طيع، ينتج أفرادا يعلنون الولاء المطلق للدولة، كما لو كانت كيانا مقدسا فوق النقد أو المساءلة. وهذه صورة تذكرنا بفلسفة الدولة المطلقة عند هيغل، التي لا تتوافق مع التعقيد الحيوي للمجتمعات البشرية، ولا مع طبيعة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التفاعل، التعدد، والاعتراف المتبادل.

النتيجة الحتمية لهذا المسار هي تعميق التطرف في القيم، وتشدد الخطاب الديني والقبلي، ورفض كل ما هو مختلف، بما يؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وتحويله إلى كيانات متحاربة. وبدلا من أن نبني وعيا نقديا قادرا على التمييز بين المصالح والحقوق، نجد أنفسنا أسيري وعيٍ مضلل، يخلط بين الانتماء والعبودية، وبين الوطنية والكراهية.

لذلك، لم يعد كافيا أن نطالب بتغيير الأنظمة أو الحكومات، بل يجب أن نبدأ من الداخل: من الذهن، من الثقافة، من بنية القيم. فالثورة الحقيقية كما أشار اليها المفكر أوجلان : لا تعني هدم دولة وبناء دولة جديدة وإنما تعني بناء إنسان حر ومجتمع ديمقراطي وهذا يتطلب القيام بالثورة الذهنية إلى جانب تأمين الحماية الذاتيةوقيام كل فرد بواجباته في المجتمع قبل المطالبة بحقوقه وهذا لا يتم من دون ثورة ذهنية جوهرية، تحرر الإنسان من أوهام الطاعة، وتزرع فيه روح المسؤولية تجاه مجتمعه. ففي المجتمع الديمقراطي، لا يطالب الفرد بحقوقه فحسب، بل يُدرك أن واجبه الأول هو المساهمة الفاعلة في بناء حياة مشتركة، قائمة على التضامن، العدل، والمشاركة الواعية.

وهنا تبرز أهمية العدالة الاجتماعية كركيزة لا غنى عنها لأي مشروع ديمقراطي حقيقي. فبدون عدالة في توزيع الثروة، الفرص، والحقوق، لا يمكن الحديث عن مساواة حقيقية، ولا عن حرية تشمل الجميع. كما أن الحوار الوطني الشامل، الذي يضم مختلف المكونات العرقية، الدينية، والثقافية، هو السبيل الوحيد لتجنب سيناريوهات الصراع والتفتيت. فالعدالة لا تتحقق دون الاعتراف بالآخر، ودون رفض منطق الهيمنة الذي يحول التنوع إلى تهديد.

لقد أثبتت تجارب عالمية أن الخروج من دوامة العنف والثأر ممكن، بل وضروري، لبناء مستقبل مستقر. ففي جنوب أفريقيا، اختار نيلسون مانديلا طريق المصالحة بدل الانتقام، وأُنشئت لجنة الحقيقة والمصالحة لمعالجة جراح الماضي دون إراقة مزيد من الدماء. وفي رواندا، وبعد مذبحة الإبادة العرقية، عملت الدولة على إعادة بناء النسيج الاجتماعي عبر آليات عدالة انتقالية محلية، ركزت على الاعتراف بالجريمة، طلب الغفران، وإعادة الإدماج. أما ألمانيا، فقد واجهت ماضيها النازي بجرأة، عبر التربية، التشريع، والاعتراف الصريح بالمسؤولية التاريخية، مما مهد لنهضة ديمقراطية عميقة الجذور.

ولكن طرح هذه النماذج لا يعني أننا يجب أن نقلدها حرفيا، بل للتعلمنا أن القطيعة مع ثقافة الانتقام، والتمييز، والخطابات الاستبعادية هي شرط مسبق لأي تقدم حقيقي. فالمجتمع الذي لا يحترم اختلافاته، ويتعامل مع مكوناته كأعداء محتملين، لن يبني دولة ديمقراطية، بل سيعيد إنتاج نفس دوائر العنف والانقسام.

لذا يجب أن تكون سياستنا اليوم قائمة على الشمولية المجتمعية، لا على الأنانية الفردية أو المصلحة الضيقة. يجب أن نعلم أبناءنا أن الانتماء الحقيقي لا يعني كراهية الآخر، بل احترامه. وأن العزة لا تبنى على إذلال الشريك، بل على التعاون معه. وأن الأخوة بين الشعوب ليست شعارا رومانسيا، بل ممارسة يومية تنفذ عبر احترام اللغات، الثقافات، والمعتقدات، وضمان حق الجميع في العيش الكريم، دون تمييز على أساس عرقي، طائفي، أو قبلي.

في الختام، لا مستقبل لشعوبنا دون ثورة في الوعي، وبناء مجتمع يقدس الإنسان لا السلطة، ويعلي من قيم العدالة لا الطاعة، ويكرس الحوار لا الإقصاء. إن البناء الديمقراطي لا يبدأ بقوانين فقط، بل بضمائر أحرار يختارون أن يكونوا مواطنين، لا رعايا.
من فكر وفلسفة المفكر أوجلان
أعداد الأستاذ أنس قاسم المرفوع