صدام الرؤى: حرية النخبة المجردة مقابل حرية المجتمع الجذرية من منظور المفكر عبد الله أوجلان؟

عندما زار الراعي جيفارا بالسجن قال: له السجان واحد من اناسك المحرومين سار نصف يوم على صخور الجبال الحادة لردعك أخبرني أيها العجوز لماذا فعلت ذلك و جيفارا جاء إلى هنا لتحريرك حينها قال : الراعي متعجبا لتحريري من ماذا يحررني فمنذ أن جئتم إلى الجبال بسلاحكم وقتالكم ماعزي لم تعد تدر الحليب فأنت تخيفهم واتبعتك النسور أينما ذهبت لقد جلبت الخراب نعم أنا أريد أن أكون حرا منك يا جيفارا وكل من على شاكلتك لماذا لا تختفي وتدعنا نعيش بسلام حينها انصدم جيفارا مما سمعه. فلو حللنا هذا المشهد من منظور المفكر عبد الله أوجلان لظهرت لنا طبقات من الدلالات تتجاوز الصدام الظاهري بين فردين إلى صدام بين رؤيتين للحرية رؤية فوقية تنزع إلى التجريد الأيديولوجي وأخرى جذرية تنبع من صلب الحياة اليومية للمجتمعات ويمكن تحليلها من عدة مستويات تتعلق بالفكر التحرري والعلاقة بين الثوري والجماهير وأهمية الفهم العميق للواقع الاجتماعي قبل فرض أي مشروع سياسي أو ثوري فحقيقة يظهر الحوار الذي دار بين الراعي وجيفارا صراعا بين رؤية جيفارا التحررية ورؤية الراعي الذي يعيش الواقع اليومي والاضطراب الذي جلبه الثوار معهم فالمفكر أوجلان يشدد دائما على أن أي حركة تحررية يجب أن تنبثق من فهم حاجات الناس الحقيقية لا من تصورات نظرية خارجية فجيفارا كمقاتل ثوري يفترض أن الراعي مضطهد ويحتاج إلى التحرير ولكن الراعي يرى أن الثورة نفسها هي مصدر معاناته ومعاناة الناس من حوله (توقف الماعز عن الإدرار، الخوف، النسور التي ترمز للعنف والموت). وهذا حقيقة يعكس إشكالية المنقذ الخارجي الذي لن يستمع لصوت احد ، فالراعي يرفض مفهوم التحرير الذي يفرضه جيفارا لأنه يربطه بالخراب وعدم الاستقرار هنا يرى المفكرأوجلان أن الحرية الحقيقية يجب أن تعرف من قبل المجتمع نفسه لا أن تفرض عليه باسم مصلحته وعبارة الراعي التي رد بها على جيفارا بقوله : أريد أن أكون حرا منك يا جيفارا تعكس حقيقة رفضا لسلطة الثوري التي قد تتحول لاحقا إلى استبداد جديد حتى لو نوى الخير وهذا حقيقة يتوافق مع نقد المفكر أوجلان للأنظمة الثورية التي تصبح هرمية وتفقد ارتباطها بالشعب فحقيقة المفكر عبد الله أوجلان يرى أن معظم الأنظمة الثورية تبدأ بخطاب تحرري يعد بتفكيك هياكل السلطة التقليدية وإقامة مجتمع أكثر عدالة ولكنها سرعان ما تسقط في فخ التراتبية والبيروقراطية فتفقد روحها الثورية وتتحول إلى نسخة مشوهة من النظام الذي ثارت ضده وهو يؤكد ان هذا التحول ليس مجرد انحراف عرضي بل هو نتاج بنيوي لغياب رؤية تحررية حقيقية تقوض جذور السلطة بدلا من أن تحتلها فالثورة كما يفهمها أوجلان ليست مجرد استبداد طبقة بحكم طبقة أخرى ولا استبدال نخبة حاكمة بنخبة ثورية بل هي عملية تفكيك دائمة لآليات الهيمنة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية لكنه يرى أن مايحدث عمليا هو أن العديد من الإدارات الثورية بعد وصولها إلى السلطة تكرس نفس المنطق الهرمي الذي حاربته فتتحول الثورة من حركة شعبية تشاركية إلى جهاز سلطوي مركزي فبدلا من تفعيل الديمقراطية المباشرة والمجالس المحلية تتركز السلطة في أيدي نخبة قيادية ضيقة تخضع كل مؤسسات المجتمع لسيطرتها تحت ذرائع مثل حماية الثورة أو المرحلة الانتقالية وهكذا تصبح هذه الإدارات الثورية أشبه بدولة تقليدية تدار من أعلى إلى أسفل وتقمع أي صوت معارض بحجة أنه خيانة للمبادئ الثورية والأخطر من ذلك هو أن هذه الأنظمة رغم شعاراتها الثورية تعيد إنتاج نفس العلاقات الاستبدادية التي ناضلت ضدها سواء عبر احتكار الحقيقة السياسية أو قمع التنوع بكل اشكاله تحت مسمى الوحدة فبدلا من تمكين الشعب وإطلاق طاقاته الإبداعية تتحول الثورة إلى آلة بيروقراطية تسحق التنوع وتخضع المجتمع لرؤية أحادية وهذا يتناقض جذريا مع جوهر الثورة الحقيقية التي يتبناها المفكر أوجلان والتي يرى انها يجب أن تكون تحررية في عمقها أي قادرة على خلق مساحات أوسع للحريات وليس إلغاءها باسم الجماعية الزائفة ولذلك يطرح المفكر أوجلان بديلا لهذه الإدارات الثورية المفترسة يقوم على فكرة الديمقراطية بدون دولة أي نموذج كونفدرالي يعتمد على الإدارة الذاتية والمجالس المحلية حيث تنتفي الحاجة إلى سلطة مركزية متحكمة فالمفكر أوجلان يؤكد أن الثورة لكي تبقى حية يجب أن تكون عبارة عن عملية دينامكية دائمة من القاعدة إلى القمة قائمة على المشاركة الشعبية المباشرة وليس على احتكار النخبة الثورية للقرار فهو يؤكد أنه كلما ادعت الثورة أنها تمثل الشعب بينما بالحقيقة هي تسكته وتخضعه لسلطتها كانت أقرب إلى النظام الاستبدادي منها إلى المشروع التحرري. وهذا يجعلنا نتسائل كيف يمكن أن تحافظ الثورة على روحها دون أن تتحول إلى آلة قمع جديدة؟
المفكر أوجلان يؤكد ان المحافظة على الروح الثورية يكمن في رفض أي مركزية سلطوية والاعتماد بدلا من ذلك على تنظيم المجتمع نفسه عبر مؤسسات أفقية كالمجالس المحلية والتعاونيات والكوميونات حيث تكون السلطة موزعة وغير قابلة للاحتكار فالمفكر أوجلان يؤكد أن الثورة الحقيقية ليست لحظة انتصار على الاستبداد بشكل سياسي أو عسكري او سلمي بل هي مسار متواصل من التحرر اليومي حيث يبقى الشعب وليس الحزب أو القائد هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، فالمفكر أوجلان في معظم مرافعاته الاخيرة ينتقد اعتماد الحركات التحررية على العنف كأداة وحيدة لأنها غالبا ما تنقلب ضد الحياة اليومية للناس ، فالراعي يرى أن القتال جلب الخراب لا التحرير مما يعكس ضرورة البحث عن وسائل أخرى للمقاومة (كالدبلوماسية، التنظيم المجتمعي، إلخ). وهذا المنهج الجديد حقيقة يتجلى في رسالته لحزب العمال الكردستاني داعيا إلى ترك السلاح والانخراط في العمل السياسي حيث يؤكد المفكر أوجلان على حاجة المنطقة إلى ميثاق جديد قائم على حق الأخوة حيث يعتبر أن هذا التحول يمثل تغييرا جذريا في النموذج الفكري ويرى أن جوهر العلاقة الكردية-التركية يجب أن تكون مختلفة تماما وتعهد بإزالة كل العوائق التي تدمر هذه العلاقة وإصلاح كل الجسور المنهارة وأكد أن قرارات المؤتمر التاريخي لحزب العمال الكردستاني تقربهم من تحقيق السلام بعد خمسين عاما من الصراع وهي خطوة نحو إحياء السياسة الديمقراطية التي تتوق إليها المنطقة حيث تعلو أصوات السياسة بدلا من الأسلحة والتوافق المجتمعي بدلا من الغضب.
فحقيقة ان المفكر أوجلان يؤكد أن التغيير الحقيقي يجب أن ينبثق من القاعدة الشعبية وليس أن يفرض من القمة حيث تظهر قصة جيفارا وصدمته من كلام الراعي الفجوة بين تصور الثوري للتحرير ورغبة المجتمع الحقيقية فلو استمع جيفارا لاحتياجات الراعي الذي يمثل طموحات الشعب في الاستقرار والعيش بسلام لربما اتجه نحو استراتيجيات أكثر استدامة كالتنظيم الاقتصادي أو الدفاع الذاتي المجتمعي بدلا من الاعتماد على المواجهة المسلحة المباشرة فالمفكر أوجلان يؤكد بأن الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية لا تقاس بعدد الشهداء أو الانتصارات العسكرية بل بقدرتها على حماية الحياة اليومية للناس وتأمين وجودهم فالراعي لم يرفض الحرية بحد ذاتها بل رفض الحرية المجردة التي تختزل بمعارك دموية وتهمش احتياجاته الأساسية كحماية قطعانه وضمان عيش مستقر وهذا التناقض المركزي في الحركات التحررية يكشف الفرق بين تحرير الناس كما يتخيله الثوريون وتحريرهم كما يريده الناس أنفسهم ومن هنا يؤكد المفكر أوجلان بأن أي نضال تحرري يجب أن ينطلق من فهم عميق لثقافة المجتمع واقتصاده وعلاقته الإيكولوجية حيث يرى أن الحرية لا تمنح كهدية من نخبة ثورية بل تخلق عبر المشاركة الديمقراطية المباشرة والبناء الجماعي من الأسفل وهذا هو جوهر مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية الذي يطرحه المفكر أوجلان والذي يجب أن لا يتجاهل أصوات المجتمع ويدرك أن التحرر عملية جماعية تبنى من القاعدة وليس قرارا فوقيا فالنضال الحقيقي يتطلب أن يكون الثوري جزءا من نسيج المجتمع لا منفصلا عنه وأن يتحول إلى أداة لتمكين إرادة الناس لا لفرض رؤيته الخاصة فالتحرير الحقيقي من وجهة نظر المفكر أوجلان ليس مشروعا بطوليا نخبويا بل عملية مجتمعية تنمو من خلال الدفاع الذاتي الديمقراطي والاقتصاد التعاوني حيث تصبح الحرية وسيلة لتعزيز الحياة لا باختزالها في شعارات مجردة.
قراءة نقدية من اعداد الاستاذ : أنس المرفوع