المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

نداء القائد التاريخي بمثابة، السلام الحقيقي ليس هدنة عسكرية ولا مجرد صمت للمدافع، بل هو مشروع حياة

68

للمبادرة السورية لحرّية القائد عبدالله أوجلان، بقلم السياسي الكوردي السوري المهتم بشؤون الشباب في سوريا: ناصر ناصرو المنضم للحملة العالمية “أرغب اللقاء مع عبدالله أوجلان”

عاشت سوريا خلال العقود الماضية سلسلة طويلة من الحروب والصراعات والانقسامات التي تركت آثاراً عميقة على المجتمع، ولا سيما على فئة الشباب الذين وجدوا أنفسهم بين التهجير والبطالة وغياب الأفق السياسي. لقد نشأت أجيال كاملة في ظل الحرب، تعلّمت أن الخوف والدمار جزء من حياتها اليومية، وفقدت الكثير من أحلامها أمام واقع قاسٍ ومفتوح على المجهول. ومع بدايات عام 2025 بدأت معالم مرحلة جديدة تلوح في الأفق من خلال مبادرتين تاريخيتين متزامنتين: نداء القائد عبدالله أوجلان للسلام والمجتمع الديمقراطي، واتفاقية العاشر من آذار التي وُقّعت بين الحكومة السورية المؤقتة وقوات سوريا الديمقراطية. هذان المساران لم يكونا مجرد خطوات سياسية عابرة، بل انعكاساً لإرادة جماعية في الانتقال من منطق الحرب والاقتتال إلى منطق الديمقراطية والبحث عن صيغة تعايش جديدة.

في السابع والعشرين من شباط وجّه القائد أوجلان من سجنه نداءً تاريخياً حمل عنوان “السلام والمجتمع الديمقراطي”، دعا فيه إلى تجاوز مرحلة الصراع المسلح والانتقال إلى ساحة السياسة والحوار. كان جوهر هذا النداء يقوم على فكرة أن مستقبل المنطقة لا يُبنى على الدولة القومية الضيقة، بل على التعددية والاعتراف بالاختلاف، وعلى صياغة عقد اجتماعي جديد يجعل الديمقراطية والعدالة والحرية أساس الحياة المشتركة. القائد أوجلان لم يكتف بالدعوة النظرية، بل حدّد خطوات عملية أهمها دعوة حزب العمال الكردستاني إلى عقد مؤتمر عام يتخذ فيه قرار وقف إطلاق النار ونزع السلاح بإرادة حرة، مؤكداً أن الديمقراطية هي الضامن الوحيد لسلام دائم، وأن أي سلام لا يقوم على حرية المرأة ومشاركتها الفاعلة في بناء المجتمع سيبقى ناقصاً. لذلك شدّد على أن حرية المجتمع لا يمكن أن تتحقق دون حرية المرأة، معتبراً أن تحررها شرط أساسي لتحرر الجميع.

بعد أيام قليلة، وفي العاشر من آذار، جاء الاتفاق التاريخي بين الحكومة المؤقتة السورية وقوات سوريا الديمقراطية ليعكس على الأرض ما حمله نداء القائد أوجلان من مضامين فكرية وسياسية. الاتفاق تضمن الاعتراف بحقوق جميع السوريين دون تمييز، ومنح المجتمع الكردي موقعه الأصيل في الوطن، وأقر وقفاً لإطلاق النار في عموم البلاد، إلى جانب دمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال وشرق سوريا ضمن مؤسسات الدولة السورية. كما نص على ضمان عودة النازحين، وحماية حقهم في الأمن، ورفض أي دعوات للتقسيم أو خطاب للكراهية، إضافة إلى تشكيل لجان تنفيذية لتطبيق بنوده قبل نهاية العام. ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق لم يكن خالياً من التحديات، إذ سرعان ما برزت اختلافات في تفسير بنوده بين الأطراف، وبدأت بعض القوى تحاول الالتفاف على روحه. لكن مجرد التوصل إليه بحد ذاته شكّل نقلة نوعية في مسار الأزمة السورية.

المقاربة بين نداء القائد أوجلان واتفاق العاشر من آذار تكشف عن مسار مشترك يلتقي عند جوهر واحد، وهو الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام، ومنطق السلاح إلى منطق السياسة. فالفكر الذي قدّمه القائد أوجلان حول المجتمع الديمقراطي والعيش المشترك يجد صداه المباشر في هذا الاتفاق الذي يسعى إلى تثبيت وحدة سوريا على أساس التعددية والاعتراف بالحقوق. كلاهما يعكس تحوّلاً تاريخياً من المقاومة العسكرية التي فُرضت بحكم ظروف الاستبداد والحرب، إلى النضال المدني والسياسي الذي يفتح المجال لبناء دولة لامركزية ديمقراطية قادرة على استيعاب كل مكوناتها.

في قلب هذا التحول يقف الشباب السوري، الذين كانوا على الدوام ضحايا للصراع، لكنهم اليوم يجدون أنفسهم أمام فرصة ليكونوا أيضاً صانعين للتاريخ. لقد عاش هؤلاء الشباب سنوات طويلة تحت التهميش والإقصاء، وعانوا من فقدان فرص العمل والتعليم والاستقرار. ومع كل ذلك، بقوا الفئة الأكثر حيوية واستعداداً للتغيير، فحملوا على عاتقهم أحلام الحرية والكرامة، وشاركوا في أصعب مراحل المقاومة. واليوم، مع بروز مرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي، يصبح من حقهم أن يكونوا في مقدمة الصفوف لصياغة المرحلة الجديدة. الشباب هم القوة القادرة على حماية التحولات من الانتكاس، لأنهم أقل ارتباطاً بالمصالح الضيقة وأكثر التصاقاً بالمستقبل.

ولا يمكن الحديث عن أي تحول ديمقراطي من دون التأكيد على الدور المحوري للمرأة الشابة، التي كانت على الدوام في مقدمة ساحات النضال، سواء في ميادين المقاومة أو في ميادين التنظيم الاجتماعي والسياسي. القائد أوجلان أعطى لهذا الدور بعداً فلسفياً عميقاً حين ربط بين حرية المجتمع وحرية المرأة، معتبراً أن أي مشروع ديمقراطي لا يضع المرأة في قلبه سيبقى مشوهاً. وفي الواقع، فإن المرأة الشابة في شمال وشرق سوريا أثبتت خلال السنوات الماضية أنها ليست فقط شريكة في التغيير، بل قائدة له، وأنها قادرة على أن تكون الضمانة الأخلاقية والسياسية لأي بناء جديد.

إن ما جرى في مطلع عام 2025 يفتح الباب على مرحلة جديدة، لكن نجاحها يتوقف على مدى قدرة المجتمع بكل مكوناته على حماية هذه المكتسبات من التراجع، وعلى مدى استعداد الدولة والقوى السياسية لاحتضان هذه الرؤية الديمقراطية لا مواجهتها. فالتجارب السابقة علمت الجميع أن إبرام الاتفاقات سهل نسبياً، لكن الأصعب هو ترجمتها إلى واقع ملموس يحسّه المواطن في حياته اليومية. هنا تماماً يأتي دور الشباب والمرأة في تحويل السلام من نصوص مكتوبة إلى ممارسة حية، من خلال الانخراط في العمل السياسي والمجتمعي، وتشكيل مبادرات شبابية مستقلة، والضغط من أجل ضمان تطبيق ما اتفق عليه.

السلام الحقيقي ليس هدنة عسكرية ولا مجرد صمت للمدافع، بل هو مشروع حياة، مشروع يفتح الطريق لبناء مجتمع مختلف، قائم على العدالة الاجتماعية، على التعددية، وعلى الاعتراف المتبادل بين كل المكونات. وإذا كان نداء القائد أوجلان واتفاقية العاشر من آذار قد فتحا نافذة للأمل، فإن ما سيحدد مصير هذه النافذة هو قدرة الأجيال الجديدة على جعلها باباً واسعاً نحو مستقبل ديمقراطي يليق بتضحيات السوريين جميعاً.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد اتفاق سياسي ولا مجرد كلمات تصدر من سجن، بل هو ولادة مرحلة جديدة كتبت بدماء آلاف الشهداء وصمود شعب لم ينكسر رغم كل المحن. نداء القائد أوجلان واتفاقية العاشر من آذار يفتحان الباب أمام سوريا مختلفة، سوريا لكل أبنائها وبناتها، سوريا الديمقراطية التعددية التي تُبنى بعرق الشباب وإرادة النساء وأحلام المهمشين.

لكن الطريق لن يكون سهلاً، فالقوى التي تعوّدت على الاستبداد والحرب ستقاوم أي تحول، وستحاول بكل وسيلة أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. هنا بالضبط يبرز دور الجيل الجديد: جيل لم يعد يقبل أن يُدفن مستقبله في مقابر الحروب ولا أن يُختزل وجوده في شعارات جوفاء. هذا الجيل مطالب اليوم بأن يكون طليعة المرحلة، أن يرفع صوته عالياً من أجل الحرية، أن ينظّم صفوفه في الساحات والجامعات والقرى والمدن، وأن يحرس بعيونه الحلم الديمقراطي الذي بدأ يطلّ من بين الركام.

فالسلام ليس هدية من أحد، بل يُنتزع بالنضال. والمجتمع الديمقراطي لا يُمنح من سلطة الهيمنة، بل يُنظم من النواة، من صوت النساء اللواتي يرفضن العودة إلى العبودية، ومن صمود الشباب الذين يرسمون مستقبلهم بأيديهم. وعندما يتوحد هذا الوعي مع هذا الفعل، يصبح المستحيل ممكناً، ويولد التاريخ من جديد.

اليوم تقف سوريا على عتبة التحول الأكبر في تاريخها الحديث: إما أن تسير نحو الديمقراطية الحقيقية، أو تعود إلى دوامة الدم والظلم. والخيار ليس بيد الطغاة ولا بأيدي الغرباء، بل بيد أبنائها الذين عرفوا معنى التضحية وتذوّقوا طعم الحرية. وإذا كان القائد أوجلان قد أطلق شرارة هذه المرحلة من قلب إمرالي، فإن على الأحرار في كل مكان أن يحولوها إلى نار ثورية تضيء درب الشعوب نحو العدالة.

فليكن العاشر من آذار بداية لزمن جديد، ولتكن أصوات النساء والشباب الراية التي تُرفع فوق الركام، راية تقول للعالم إن سوريا قادرة أن تنهض من بين الرماد لتكتب تاريخاً جديداً، تاريخاً بالحرية، بالكرامة، وبالديمقراطية التي ترتكز على العصرانية الديمقراطية النموذجية.