المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

عبد الله أوجلان يطرح بديلاً (السلام والمجتمع الديمقراطي) في زمن الإفلاس، حياة وحريّة لكل شعوب الشرق الأوسط والعالم

155

للمبادرة السورية لحرّية القائد عبد الله أوجلان، بقلم السيد: دليار إبراهيم باحث في الشؤون السياسية والقضايا التي تخص الفئة الشابة في فكر القائد عبد الله أوجلان، وأحد الداعيّن لتحقيق حرّية القائد من خلال الحملة العالمية “أرغب اللقاء مع عبد الله أوجلان”. 

في فكر القائد عبد الله أوجلان، لا يمكن اختزال “مرحلة السلام” بأنها لحظة تراجع أو مساومة، بل هي بالدرجة الأولى تحول فلسفيّ جذري في مقاربة صراع ثنائية الدولة – المجتمع. بعد أعوام طويلة من النضال المسلح، وخصوصاً بعد اختطافه عام 1999، أعاد القائد صياغة المفاهيم الجوهرية في مسار الحركة التحررية، وانتقل من خطاب الدولة القومية إلى رؤية جديدة تتجاوز مفاهيم السيادة الكلاسيكية، لتُركز على تحرير المجتمع ذاته من الداخل، من سلطاته الموروثة، وعقليته الذكورية، وهيمنة الدولة المركزية.

السلام، بحسب هذه الرؤية، لا يُبنى عبر التفاوض التقليدي مع الأنظمة، بل من خلال إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية على أسس ديمقراطية، تشاركية، تعددية، لا مركزية، تُخرج الإنسان من موقع التابع إلى موقع الفاعل. المجتمع الديمقراطي ليس شعاراً طوباوياً في هذه المرحلة، بل هو حجر الأساس لأي إمكانية للسلام الحقيقي، حيث لا يمكن تحقيق السلم دون تغيير بنيوي في شكل العلاقة بين المجتمع والدولة، بين المرأة والرجل، بين الإنسان والطبيعة، وبين القوميات المختلفة. وهذا ما شكّل جوهر الطرح الأوجلاني، حيث باتت “الدولة القومية” بالنسبة له نسخة معاصرة من العقلية السلطوية التي حكمت البشرية، والتي لا يمكن تحرير الشعوب من تبعاتها إلا ببناء أنظمة حياتية بديلة.

تأثير هذا التحول لم يقتصر على الكورد أو على تركيا وحدها، بل كان له تداعيات فكرية وسياسية عميقة في الشرق الأوسط بأسره، وخصوصاً في سوريا. فبينما كانت المنطقة تغرق في صراعات طائفية ومذهبية وعرقية، بانهيار ما تبقى من شرعية الأنظمة الحاكمة، جاء مشروع المفكر أوجلان ليقترح حلاً ثالثاً، لا يقوم على العنف، ولا على الدول الكرتونية، بل على إعادة تنظيم المجتمع من القاعدة، من خلال تطبيق منظومة الدفاع المشروع، الكومينات والمجالس، والاعتماد على طاقة الشباب والمرأة والطبقات المهمّشة، بوصفهم الفاعلين الحقيقيين بتنظيم المجتمع وريادة مسار التغيير.

في سوريا، ومع اندلاع الثورة عام 2011، ونتيجة الفراغ السياسي والأمني في مناطق الشمال، تجسّدت مبادئ المجتمع الديمقراطي عملياً من خلال تأسيس الإدارة الذاتية التشاركية، كنموذج تطبيقي للرؤية الأوجلانية. لم يكن هذا المشروع استنساخاً من تنظيرات أكاديمية، بل وُلد من رحم الأزمة السورية، واستطاع أن يثبت نفسه كنموذج للإدارة الديمقراطية الحقيقية، في وقت كانت فيه باقي المناطق تغرق إما في الفوضى، أو في سلطات الأمر الواقع القائمة على السلاح والمصالح الفئوية. في هذه التجربة، رأينا كيف خاضت المرأة موقعاً قيادياً فعلياً، وكيف تمت مشاركة العرب والسريان والكورد والأرمن والتركمان وباقي المكونات ضمن الهياكل الإدارية والتنظيمية، وكيف تم تفعيل البلديات والمجالس المحلية كأدوات اتخاذ القرار من القاعدة إلى القمة، لا العكس.

لكن، وعلى الرغم من النجاحات التي ارتكزت على فلسفة القائد، واجهت المرحلة السابقة العديد من التحديات. أولها وأعمقها، العزلة المفروضة على القائد أوجلان، والرقابة المشددة على أفكاره، ومحاولات النظام التركي الدائمة لتشويهها ووصمها بالإرهاب. وثانيها، الحصار السياسي والعسكري المفروض على مناطق الإدارة الذاتية، سواء من قبل تركيا أو النظام السابق أو حتى بعض القوى الدولية التي لا ترى في هذا النموذج مصلحةً استراتيجية. وثالثها، العقبات البنيوية داخل المجتمعات نفسها، من عادات ذكورية، ومن قوى تقليدية، ومن رواسب عقلية الدولة، وهي تحديات لم يُنكرها أوجلان، بل شدّد دوماً على أن التحرر لا يتحقق إلا ببطء وصبر وتراكم مستمر للوعي والعمل.

ومع ذلك، أثبت مشروع السلام والمجتمع الديمقراطي، أنه يمكن أن يكون بديلاً حقيقياً في زمن السقوط الأخلاقي للنظام العالمي، وفي لحظة الخيانة الكبرى التي مارستها الدول بحق شعوب المنطقة. ففي الوقت الذي استخدمت فيه القوى الكبرى سوريا كميدان حرب بالوكالة، وفي حين سقطت المعارضة في فخ الارتهان والمحاصصة، كان هناك من يبني ببطء مجتمعاً مختلفاً، يزرع بذور الديمقراطية. وهنا تتجلّى قوة الفكر الأوجلاني: ليس في كونه بديلاً فقط، بل في كونه مدرسة جديدة في السياسة والفلسفة، مدرسة لا تسعى للسلطة بل للحرية، ولا تبني الدول بل تعيد الحياة إلى المجتمعات.

إن الشرق الأوسط، الذي كان دوماً مسرحاً للهيمنة، بات اليوم أمام خيارين مصيريين: إما الغرق في دوامة الاستبداد والطائفية والانهيار الاقتصادي، أو السير في طريق الفكر الأوجلاني الذي ينير أفقاً جديداً للكرامة والعدالة والتعايش. وفي هذا السياق، لم تعد أفكاره مجرد تراث نظري، بل تحوّلت إلى شعلة يقودها شباب ونساء على الأرض، يحملون رؤيته في جبهات القتال، وفي الصفوف الدراسية، وفي القرى والمدن والمراكز المجتمعية والمحافل السياسية، متحدّين كل أشكال العزلة والتهميش.

فإذا أردنا أن نفهم حاضر المنطقة ومستقبلها، يجب أن نقرأ لعبد الله أوجلان، لا كمجرّد قائد كوردي، إنما كمفكر أممي يطرح بديلاً في زمن الإفلاس، ويكتب من عمق جزيرة التابوت، حياة وحريّة لكل شعوب الشرق الأوسط والعالم.