براديغما الاقتران الكوني (PKK – APO – PAJK)

بقلم السيدة: آمنة خضرو المتحدثة باسم المبادرة السورية لحرية القائد عبد الله أوجلان_حلب.
دراسة… تحليلية تاريخية علمية فلسفية لخارطة طريق السلام للإنسانية في فكر رائد علم الاجتماع الحديث ومهندس فلسفة المرأة الحياة الحرية و معمار المجتمع الأخلاقي السياسي الديمقراطي الإيكولوجي الحر”عبد الله أوجلان”
1) أورجانيك المد التاريخي والبيولوجي لسيرورة “أبن عويش خاتون – أم عبد الله” (الأم، الحياة، الحرية):
في قلب الجغرافيا المتشابكة بين الشرق والغرب، تنبثق مدينة “رها” التي عُرفت عبر العصور بأسماء شتى مثل “أور”، “أورهوي”، “روها”، “أداسا”، وحتى “شانلي أورفا”، تعتبر واحدة من أبرز النقاط التاريخية والثقافية والدينية التي شكّلت منعطفات الحضارة الإنسانية منذ ما قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام.
تُعد “رها” حسب المصادر التاريخية والعلمية مهد ميلاد النبيين إبراهيم الخليل وأيوب عليهما السلام، وتحتضن أحد الكهوف التي يُعتقد أنها تضم ضريح النبي شعيب، وتحمل في طياتها بعداً ميثولوجياً عميقاً يتمثل في قصة النبي إبراهيم وأمه التي أخفته تسع سنوات خوفاً من بطش نمرود الطاغية، الذي أمر بقتل كل مولود ذكر بعد أن أخبره العرّاف بأن نهايته ستكون على يد طفل من قومه.
وقد واكبت المدينة حضارات كبرى كالرومان (212 م)، والبيزنطيين، والساسانيين، والفُرس، قبل أن تدخل الإسلام. وفيها يقع المعبد الأثري “كوبكلي تبه”، أقدم دور العبادة المكتشفة في العالم، والذي أدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام (٢٠١٨م)، ليجعل من “أورفا” رمزية تاريخية لبزوغ الفكر البشري، وتحمل العديد من الآثار والقلاع والكهوف والمواقع المهمة من إرث الحضارات القديمة.
ضمن هذا الامتداد الجغرافي الزاخر، وُلد القائد عبد الله أوجلان في قرية “أمارا” بتاريخ (4 نيسان ١٩٤٩م)، ليكون استمراراً لسيرورة بيولوجية وتاريخية تجسدت عبر نساء مثل “عويش خاتون”، والدة عبد الله، التي باتت رمزاً للأم، للحياة، وللحرية. فقد ورث القائد عبدالله أوجلان من أرضه ومجتمعه وعياً نقدياً وإدراكاً حسياً جعله يتصادم مع السائد من تقاليد ولغة وعادات، خاصةً حين مُنع من الحديث بلغته الكردية في المدرسة، ما دفعه إلى القول لاحقاً “لا معنى للحياة هنا”.
تصدر القائد التاريخ من بوابة كبرى، مجسداً سلسلة من ثورات الإنبعاث التي عبرت العصور وتجاوزت الجغرافيا، ليعيد رسم البوصلة الزمنية من خلال شخصيات بارزة شكّلت معالم تحوّل في الفكر الإنساني والنضال المجتمعي. لم تكن هذه الشخصيات مجرد رموز في حقبها، بل كانت منارات لعصر جديد تمخض من رماد السلطة والتهميش، نحو إنسانية متحررة.
من فلاسفة الحكمة مثل كونفوشيوس وزرادشت وسقراط، إلى الأنبياء الذين حملوا رسائل اجتماعية كبرى مثل إبراهيم الخليل، موسى، المسيح أبن مريم، ومحمد، جسد ملامح الطرح التغييري تتكرر في محطات متعددة، تتحدى المألوف وتفتح أبواب التجديد الروحي والفكري. وفي خضم الصراعات العسكرية والسياسية، يبرز نابليون، وصلاح الدين الأيوبي، وسبارتاكوس، ولينين، كمحطات حاسمة في كسر احتكار القوة والهيمنة.
أما في المجال الثوري والفكري، فقد تجلّى العمق في أطروحات نيتشه، وكارل ماركس، وتشي غيفارا، وماو تسي تونغ، ممن واجهوا بنية السلطة بالعقل الثائر. كما كانت روزا لوكسمبورغ وليما غبوي رمزين بارزين لتحرر المرأة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية، في وقت جسد فيه نيلسون مانديلا النضال ضد التمييز العنصري، ووقف شيخ سعيد بيران كصوت مقاوم ضمن صراع الهويات.
جميع هذه الشخصيات، على اختلاف انتماءاتها الفكرية والدينية والسياسية، تمخّضت عنها حيثيات ووقائع نهضت في وجه الظلم، مدافعة عن حقوق الإنسان، ورافضة للتمييز العنصري والجنسوي، ومناهضة للذهنيات المنغلقة ومفاهيم السلطة المتجذّرة في عتمة التاريخ.
إنها لحظة الانبعاث، لا بوصفها حدثاً بيولوجياً فحسب، بل كنقطة أولى لانطلاقة الوعي الإنساني الحر. إنها المحطة التي تلتقي عندها تجارب النخب الجدلية في التاريخ، لتعيد للإنسان قيمته، وللمجتمع روحه، وللمستقبل معناه.
تأثّر القائد بالطبيعة الخلابة المحيطة به، والتي ساهمت في إنضاج خياله وتوسيع أفقه الفكري، كما انعكس هذا لاحقاً في مواقفه ونقده للرأسمالية، ومنها شعوره بالخجل من لباس والدته الفلكلوري حين اصطحبها للطبيب في المدينة. هذه اللحظات البسيطة شكّلت بداية تحولاته الفكرية الكبرى.
نشأ في كنف الدين الإسلامي وأتقن تعاليمه وطقوسه، لكنه سرعان ما ارتحل إلى عالم الماركسية، ثم الفلسفة الديالكتيكية التي دمج فيها الحياة مع الفكر والفلسفة. ومن هذا التطور الفكري، تشكّلت لديه قناعة بأن التحرر لا يمكن أن يتحقق دون تغيير جذري في الذهنية السائدة، وهو ما دفعه إلى إعلان انبعاث جديد لحركة تحرر كردستان انطلاقاً من مبدأ “كردستان محتلة”، استوجب تحريرها بثورة فكرية وتنظيمية وسياسية.
تجسدت هذه الرؤية عبر بناء تنظيم ثوري يمتلك أيديولوجيا تستند إلى مبادئ مثل الرفاقية، والإخلاص، والارتباط بالأرض والوطن، والعدالة الاجتماعية. وبهذا أطلق القائد نموذجاً جديداً لجيش من الجنسين، وكان لجيش المرأة دور بارز في هذا النموذج، ما أكسب الحركة زخماً إنسانياً وأخلاقياً قلّ نظيره.
برزت في شخصية القائد سمات القيادة،حب الحكمة، الفراسة، التحليل العميق،تهذيب ملكات الفكر الأناقة الفكرية، الرفاقية، سمات المناضل الحقيقي، والقدرة على التجدد الدائم، مع التركيز على مبدأ “النقد والنقد الذاتي” كأداة للتحرر من الذهنية السلطوية. لقد اختار أن يواجه “إرث الذهنية” بكل ما تحمله من استبداد، عبر قوة الإرادة والتنظيم، ليؤسس لفكرٍ جديد ينطلق من واقع شعبي حقيقي ويصبّ في مستقبل إنساني تحرري شامل.
في ختام هذا المشهد التاريخي والفكري، يبدو أن سيرورة “أم عبد الله – عويش خاتون” ليست مجرد حكاية أم أنجبت، بل تمثّل بداية لتاريخ طويل من الكفاح والنهوض، حيث تتقاطع الأمومة بالثورة، وتصبح الحرية امتداداً طبيعياً للحياة.
2) تحوّلات الذهنية وتاريخ المؤامرة: عبد الله أوجلان بين الفكر والمواجهة:
في قلب التحولات السياسية والفكرية التي شهدها الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، برز القائد عبد الله أوجلان كمفكر ومناضل شكلت أفكاره محطات مفصلية في إعادة قراءة التاريخ والمجتمع والسلطة. لقد أدرك أوجلان مبكراً أن جوهر النضال لا يكمن في القوة المسلحة وحدها، بل في القوة الإدراكية والفكرية التي تصنع الديمقراطية الحقيقية، والتي وصفها بأنها القوة التي لا يمكن هزيمتها حتى من قبل أمريكا ذاتها.
يقول القائد:
“أهم قسم في عملية تحول الذهنية وتغيرها، هو التحلي بالاصرار والتصميم على نظام الديمقراطية. لا شك في أنه هناك أنظمة أخرى معينة بالحلول، فالحروب الشاملة والانتفاضات العارمة بإمكانها خدمة حل المشاكل الهامة. وقد جربتُ ذلك بنفسي في الماضي، ولكن الحقيقة الأكيدة هي أن مثل هذه الأساليب بعيدة كل البعد عن طباعي. فالمسألة المعنية مرتبطة عن كثب بمدى قربها من القوة الفظة أو قوة المنطق والإدراك. وعلى عكس ما يُعتَقَد، فمن يمنح القوة ليس الجيوش أو حركات الانتفاضات، بل هي الديمقراطية المفعمة بقوة الإدراك. ولا يمكن عرقلة انتصار مبدعي هذه القوة، حتى أمريكا أيضاً. فقد ظهر في التحليل الأخير أن ما يمهد الطريق لتفوقها (بين القوى المهيمنة) هو القوة المتبقية من الأرضية الديمقراطية الموروثة من الماضي. لم تكن القوة المحضة للسوفييت أقل شأناً مما عليه في أمريكا، ولكن العامل المؤثر الأساسي في خسارتها دون حرب تَمَثَّل في عدم فهمها للديمقراطية على الإطلاق. ويكمن وراء تكبّد الكثير من القوى الشعبية في العالم للخسائر وإصابتها بالهزمة، عدم قدرتها على تطوير وتعزيز الديمقراطية لديها. وقد وصلت درجة تامة من النقاء والحسم في هذا المضمار. وبمقدوري القول أنني، وعندما أتوجه إلى حل الأزمة البارزة في الظاهر الكوردية، قد خلّفتُ الشكوك والظنون القديمة ورائي، وجددتُ نفسي باكتساب بنية وتكوينة واثقة من نفسها، وتحليتُ بالابداع الاخلاقية.”
بهذه الرؤية، تجاوز القائد مرحلة الاعتماد على الانتفاضات والحروب الشاملة كوسيلة للتغيير، وبدأ في بناء بديل فكري وأخلاقي يتأسس على الديمقراطية، والمجتمع الحر، والتحول الذهني، تفجير ثورة ذهنية على الصعيد الحزبي وأداء الواجبات الوطنيّة والإنسانيّة المطلوبة،
عملية تنظيم المجتمع.
عملية تدريب المجتمع.
عملية توجيه المجتمع.
ضمن هذه الأرضية، توسّع حزب العمال الكوردستاني في سوريا ولبنان،ومن ثم إلى كل المناطق الكوردستانية والعالم،ليؤسس قاعدة تنظيمية نوعية، ففي أكاديمية الشهيد “معصوم قوقماز”، شُكّلت نواة الكادر النموذجي، وتأسست الاستراتيجية الفكرية والعسكرية للحزب، ما جعل من حضوره مصدر قلق عميق للأنظمة الإمبريالية. لقد اعتُبر الحزب تياراً ثورياً لا ينسجم مع هندسة النظام العالمي، ولهذا، كانت تصفية القائد أولوية ضمن حسابات القوى المهيمنة. فإزاحة القائد لم تكن مجرد محاولة لضرب حزب، بل محاولة لإحباط إرادة الشعوب برمتها وإبعادها عن قضاياها الجوهرية،
والقضاء على آخر رموز الاشتراكية
- عن خروجه من سوريا في 9 تشرين الأول 1998،
- يقول القائد:
“يُعبِّر مضمون حادثة خروجي إلى أوروبا عبر أثينا في (٩ تشرين الأول ١٩٩٨م) وما بعدها، إفلاساً لوجهة النظر البراديغمائية (paradigma أي النظرية المثلى أوالمثالية) المعاصرة لديّ. ومن الجلي أن عجزي عن تحويل ساحة الوطن إلى قوة تحررية بكل معنى الكلمة رغم كل محاولاتي، وبنيتي الذهنية المحدودة الآفاق والمليئة بالشكوك، والعوائق التي تعترض طريقي في هذا المجال؛ كل ذلك أرغمني على الخروج إلى أوروبا، ممثلة القوة الحضارية المؤثرة. هذه الحقيقة، بمعنى من المعاني، انعكاسٌ لضعف الثقة بالقوة الذاتية. فالتاريخ المعاش، كان يعبّر عن مأزق غائر عميق، سواء ببُعده الزماني أم المكاني. ورغم التطورات الهامة للغاية، والتي حصلت في الشرق الأوسط نتيجة جهودي طيلة قرابة عقدين من الرمن (1979م- 1999م)، إلا أنها لم تكفِ للمجيء بالحل الدائم لهذه العقدة الكأداء المتعاظمة، تماماً مثلما هي حال المجتمع الشرق أوسطي.”
كان خروجه لحظة فارقة في مسيرة أوجلان، إذ كشف عن التناقضات العميقة في بنية العالم المعاصر، وكذلك عن العجز في تحويل ساحة الوطن إلى ساحة تحرير شاملة، رغم الجهود التي استمرت عقدين من الزمن. ما حصل لاحقاً لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل كان تمهيداً لمؤامرة كبرى حيكت بجهد استخباراتي متعدد الجنسيات، قادها “الغلاديو” ونفذتها أجهزة الاستخبارات التركية بالتنسيق مع قوى دولية أخرى.
وفي هذا السياق، قال القائد عن المؤامرة الدولية:
“وقاموا بالحسابات ووضع الخطط والمكائد، وألقوا بي إلى بلاد آكلي لحوم البشر بسفالة وخيانة في أفريقيا، وظنوا بأنهم خدعوني، وقاموا بتسليمي بطريق احترافية، وقاموا بوضعي في نعش بإمرالي، وبهذه الطريقة قاموا بتأمين مصالحهم المهددة، وهذا الوضع مخالف للقانون الأوروبي، إن وُجد، حيث إن رؤية موقف المحكمة كمقياس للحضارة هو أكثر أهمية بالنسبة لي، لكن الشيء الأكثر أهمية من ذلك بالنسبة لي، هو أنه إذا ذهب المرء إلى أوروبا كشخص عادي، فإنه سيتمكن من إيجاد مكان له، وباعتبار أن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث بالنسبة لي، إلا إذا تمكنت من العثور على النقيض، فسيكون من الممكن بالنسبة لي التواصل مع أوروبا، وكان هذا أيضاً مرتبط بالأمر القائم على ربط الشرق الأوسط الذي يتخذ من الحضارة الأوروبية نقيضاً لأساسه التاريخي، وحاولت جاهداً إيجاد حل وإظهار هذا الامر، وأنا على يقين أنني نجحت فيه، وإن كان ذلك إلى حدٍّ محدود، واعتقد أنني قدمت إجابة عامة على آراء وانتقادات العديد من الرفاق والأصدقاء، الذين لم أتمكن من التعبير عنها برسالة وبسبب قلة الفرص، ولقد كان هذا الأمر ضرورياً جداً، وعلى الرغم من وجود العديد من التقصيرات، إلا أنني على يقين بأنني تحملتُ مسؤوليتي.”
١لقد كانت المؤامرة تهدف إلى عزله جسدياً، لكنها فشلت في عزله فكرياً. بل على العكس، تحوّلت تجربة العزلة إلى نقطة انبعاث جديدة في مشروعه ١السياسي والفلسفي، حيث أعاد صياغة مفاهيم المقاومة، والهوية، والحرية، في سياق يتجاوز الحدود القومية الضيقة، ويؤسس لنموذج ديمقراطي حر يقوده ١الشعب.
وفي خضم هذه التجربة المعقدة، لم يفقد القائد إيمانه بضرورة تحمل المسؤولية، رغم وجود صعوبات. لقد سعى إلى بناء جسر حضاري بين الشرق والغرب، بين إرث المنطقة وثقافة المستقبل، ليقدّم إجابة عملية على تساؤلات رفاقه وشعوب المنطقة التي تطلعت إلى الحرية الحقيقية.
3) إمرالي… الانبعاث الثالث في معترك الزنزانة والموت المؤجل:
عندما نفتح صفحات المرحلة الأشد ظلمة في حياة القائد عبد الله أوجلان، نقف عند بوابة “إمرالي” – الزنزانة التي أرادها النظام العالمي مقصلة صامتة تستكمل ما بدأته سيوف الإعدامات بحق الثوار الأوائل، من شيخ سعيد إلى مظلوم دوغان. إلا أن هذه الزنزانة لم تكن نهاية كما أُريد لها، بل تحولت إلى ولادة ثالثة – انبعاثٍ جديدٍ لفكرٍ صُقلَ في النار وأعاد تشكيل معاني الحياة والموت والمقاومة.
في تلك العزلة القسرية، وفي قلب مشتقات الموت، لم يكن القائد يواجه السجن كعقوبة جسدية، بل كاختزال للحياة ذاتها، كما لو أن السجن امتداد رمزي لإعدام الثائرين عبر التاريخ الكردي. فكان لا بد من استدعاء الذاكرة، من حوار داخلي، كما في تلك اللحظة التي دوّى فيها صوت الأم “عوَيش خاتون” في أعماق ذهنه، وهي تقول: “أصدقاؤك يستغلونك، سيتخلون عنك، وستبقى وحيداً…”.
- هل كانت هذه النهاية؟ أم بداية لنهاية جديدة؟
في الخارج، انتشرت شائعات عن نهاية القضية الكوردية وسقوط حزب العمال الكوردستاني، بينما ترددت أخبار مغرضة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل تهلل لاختطاف القائد وكأنها نهاية الحلم الكوردي. لكن ما جرى كان نقيضاً تاماً لهذه التوقعات. فالجماهير انتفضت من أقصى كوردستان إلى أرجاء الشتات، معلنة أن المؤامرة ليست نهاية، بل إعلان مقاومة جديدة.
اشتعلت أجساد مئات الشبان والشابات بمشاعل التمرد، لا كحالة من اليأس، بل كصرخة رفض واعٍ للمؤامرة، وكسدٍّ منيع يحمي القائد من المساس بحياته. حملة “لن تستطيعوا حجب شمسنا” لم تكن مجرد شعار، بل كانت إنذاراً عالمياً بأن أوجلان لم يعد مجرد قائد، بل أصبح شمساً رمزية لشعب بأكمله. ولولا تدخله السريع بوقف العمليات الفدائية، لالتحق الآلاف بدائرة النار، في موجة كانت ستشعل المنطقة بأسرها.
القائد، في عزلته، لم يكن غائباً عن المشهد. بل استدعى تجارب مقاومة السجون، لا سيما تجربة الشهيد “مظلوم دوغان”، الذي أشعل ثلاثة أعواد ثقاب ليُفجر بها ثورة فكرية قلبت موازين السجون وأحيت الأمل. لكن القائد، كعادته، لم يكرر التاريخ بل قرأه بعمق. أدرك أن المرحلة تتطلب مقاومة من نوع مختلف، مقاومة تبني لا تدمّر، تفكّر لا تحرق، تقود لا تنفجر.
ومن خلال تحليل دقيق للمكان والزمان، وانطلاقاً من رؤية جيوبوليتيكية تعيد تفكيك الواقع الإقليمي والدولي، وضع القائد أسس قراءة جديدة للمرحلة. أدرك أن ما يُفرض عليه من قيود في إمرالي ليس سوى شكل جديد من الاحتلال الفكري، فكان لا بد من كسر تلك القيود عبر سلاح العقل، والمعرفة، والتحليل.من بين احدى النظريات التي
استند القائد لها النظرية المعرفية (الابستمولوجية) التي تجمع بين الفهم التاريخي والعلمي والفلسفي، ليؤسس انبعاثاً جديداً من رحم الزنزانة. بهذا، تحوّل السجن إلى فضاء تفكير حر، وانطلقت مقولته العميقة:
“الحياة الخاطئة لا تُعاش بصواب.”
بهذه المقولة، قدّم القائد عصارة فهمه للمرحلة، مؤكداً أن لا معنى للعيش ضمن حياة يفرضها الآخرون، ولا صوابية في الخضوع لمعادلات مغلوطة تقتل الإنسان من الداخل.
إمرالي لم تكن سجناً للقائد، بل كانت مختبراً لإعادة تعريف الحرية، ومسرحاً للانبعاث الثالث، حيث لا تنكسر الإرادة، بل تُعاد صياغتها لتقود أمماً نحو التحرر والكرامة.
4) استحداث العلاقة بين الفكر والمقاومة: بين نبذ التراكم الذهني وبناء فلسفة الحداثة الديمقراطية:
في سياق الكفاح من أجل الحرية، لم تكن المقاومة لدى القائد عبد الله أوجلان مجرد فعل ميداني أو عسكري، بل شكلت عملية عقلية مستمرة لاستحداث علاقة جوهرية بين الفكر والمقاومة، تُعيد تعريف الوجود الإنساني وتضعه في مركز مشروع تحرري . لقد بنى القائد فلسفة حداثته الديمقراطية من منطلق النقد العميق والمتجذّر للحداثة الرأسمالية، معتبراً أن أحد أسس التحرر هو تفريغ الذهن من العبثية المتراكمة التي أنتجها هذا النظام.
منعطف البناء الفكري الذي ابتدعه القائد تمثل في تعمقه التحليلي العميق، حيث نقد كل العُقد التي تعرقل تحرر الإنسان ووضعها تحت مجهره الفلسفي، ليستخلص من خلالها فوائد ومعانٍ لم يسبق لعقل بشري أن تناولها بهذا المستوى الاصطلاحي. لقد دمج الأخلاق بالسياسة، معتبراً أن هذه المعادلة هي التي تُنتج مجتمعاً حرّاً، أخلاقياً، وسياسياً. ومن منطلق أن الكون جزء لا يتجزأ من المجتمع، فقد طوّر القائد تصوراً متكاملاً للنظام الإيكولوجي الذي يتطابق بدوره مع النظام الأخلاقي والسياسي ، ليضع بذلك مفتاح الحل الجوهري لكل قضايا البشرية.
إن فلسفة التحول كانت دائماً سمة بارزة في طراز القائد وأسلوب حركته التحررية، فهو لم يتوقف يوماً عند القوالب الجاهزة أو النمطية الفكرية (الدوغمائية)، بل تمرد عليها منذ طفولته، متخذاً من الحرية الفكرية سبيلاً للانعتاق. لقد تأثر بفلسفة زرادشت ومقولته الشهيرة: “فكر، ذكر، عمل”، فصاغ بها جوهر مشروعه المقاوم، حيث تُصبح الحياة تفكيراً دائماً، وتذكراً للجوهر، وفعلاً يتجسد في الميدان.
لقد أسهمت مؤلفات القائد في تقديم معنى جديد للحياة، حيث لم يكتب مجرد شعارات أو آراء سطحية، بل قدّم مجلدات معرفية ضخمة تمعّن فيها في التاريخ، والعلوم، والسياسة، والفلسفة، والفنون، وتاريخ المرأة. كما تناول قضايا المجتمع التاريخية بأكملها من خلال منظوره الفريد في سوسيولوجيا الحرية، الذي شكّل أحد أبرز المشاريع المعرفية في الفكر التحرري المعاصر.
وفي هذا السياق، انتقد القائد علم الاجتماع الأوروبي نقداً جذرياً، قائلاً:
“في الحقيقة إن علم الاجتماع ذا البنية المعرفية الأوربية المركز، لم يذهب أبعد من المزاعم التي تقول بإمكانية إيضاح المجتمع بنفس مقاربات المهووسين بالعلوم الوضعية، والذين يعتبرون المجتمع ظاهرة مماثلة للظواهر السائدة في الحقول الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية في العلوم الوضعية. فالتجرؤ على تشييء المجتمع البشري ذي الطبيعة المختلفة جدا، لم يؤد إلى التنوير كما يعتقد. بل أفضى إلى وثنية أكثر عمقا. وقد أبرزت النقاشات الراهنة حول العلم بما فيه الكفاية، أن الانفتاحات الفلسفية للمنظرين الألمان، وعلم الاقتصاد السياسي للمنظرين الإنكليز، وعلم الاجتماع للفلاسفة الفرنسيين، والذين أنكبوا جميعا على تقديم البنى المعرفية لدولهم القومية، ليست سوى أدوات لشرعنة أجهزة السلطة وتكديس رأس المال لديهم. وفي نهاية المآل، لم تتخلص الفلسفة الألمانية وعلم الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع الفرنسي من تشكيل الأرضية لقوموية الدولة القومية المتصاعدة. وعموما، يمكننا القول، وبكل سهولة، أن تلك العلوم الاجتماعية الأوروبية المركز هي بنى معرفية للنظام الرأسمالي العالمي الأوربي المركز”.
لقد فضح القائد كيف أن هذه العلوم الاجتماعية التي نشأت في أوروبا لم تكن بريئة أو علمية كما يُروج لها، بل كانت أدوات معرفية لخدمة النظام الرأسمالي العالمي، وتكريس سلطة الدولة القومية المتصاعدة. وهنا، تبرز فرادة القائد في بناء علم اجتماع حرّ، متمحور حول الإنسان، ومتجذر في القيم الأخلاقية والبيئية.
وفي نهاية المطاف، نعود إلى مقولته العميقة التي تختزل جوهر فلسفته في الحياة:
“ليس المهم أن يعيش الإنسان، المهم أن يترك أثراً يدل على أنه يعيش”.
هي ليست مجرد عبارة، بل ميثاق حياة، تلخص كيف يتحول الفكر إلى مقاومة، والمقاومة إلى بصمة خالدة في مسيرة الشعوب نحو الحرية.
5) “المرأة، الحياة، الحرية”: نحو إيديولوجية تحرر المرأة في فكر القائد عبد الله أوجلان:
يُعد القائد عبد الله أوجلان، مؤسس منظومة الكونفدرالية الديمقراطية، المفكر الذي منح قضية تحرر المرأة بُعداً ثورياً وأيديولوجياً عميقاً. لم تكن رؤيته للمرأة مسألة فرعية أو ثانوية ضمن مشروع تحرري، بل كانت جوهر الحياة الحرة وركيزة أساسية لإعادة بناء المجتمع الأخلاقي والسياسي والإيكولوجي الحر. ومن داخل زنزانة إمرالي، رفع أوجلان لواء حرية المرأة، معتبراً أن سلامتها الجسدية وحريتها الفكرية شرط لا غنى عنه لتحقيق سلام مشرف ومستدام.
لقد جزَم القائد بأن حرية المرأة تمثل الشطر الأهم من الحياة الحرة، إذ لا يمكن تصور مجتمع متحرر دون تحرر المرأة من الذهنية الذكورية والعبودية المؤسسية. فكانت المرأة المقاتلة محوراً أساسياً في حزب العمال الكوردستاني، تبلورت فلسفتها في شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، وهو أكثر من مجرد شعار؛ إنه مشروع تحرر شامل، يستهدف هدم النظام الأبوي، ومحاربة الذهنية السلطوية، وتطوير مهارات البحث الكوانتومية، أي البحث عن الحقيقة بأدوات تحليلية عميقة وجذرية.
تجسدت هذه الرؤية في وحدات ومؤسسات نسوية مستقلة ضمن الحركة التحررية، أبرزها “جيش الكريلا النسائي”، المنظم وفق مبادئ الإيديولوجية التحررية، وبالاعتماد على نظرية الكونفدرالية الديمقراطية ذات الأبعاد العلمية والاقتصادية والبيئية، التي تتمحور حول حرية المرأة. ومن هنا، تأسست علم “الجينولوجيا” (علم المرأة) كمنظور معرفي جديد، يعيد قراءة التاريخ من وجهة نظر المرأة، ويؤسس لمجتمع أخلاقي سياسي بيئي كونفدرالي ديمقراطي متكامل انطلاقاً من النطاق المحلي ووصولاً إلى الأفق الكوني.
اندمجت هذه الفلسفة مع ثورة “روج آفا”، التي مثّلت تطبيقاً عملياً لمشروع الأمة الديمقراطية، القائم على أخوة الشعوب والمساواة الجندرية، فبرزت وحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPJ) في مواجهة قوى الظلام المتمثلة بتنظيم “داعش” الإرهابي المدعوم من دولة الاحتلال التركي. وقد خاضت المرأة هذه الحرب ليس فقط دفاعاً عن وجودها، بل عن كرامة الإنسان، في وجه محاولة الإبادة (الجينوسايد) التي استهدفت الشعب الكردي والمرأة بشكل خاص.
وفي إطار الإدارة الذاتية، حصلت المرأة على موقع تشاركي عبر نظام “الرئاسة المشتركة”، ومنظومة المجالس والمؤسسات المدنية، مما أتاح لها استقلالية تنظيمية وحق المشاركة الفعلية في صياغة القرار السياسي والاجتماعي. وبهذا المعنى، تأسس (مؤتمر ستار) كمنظمة نسائية كونفدرالية ديمقراطية، تهدف إلى تنظيم وتعليم وتمكين المرأة والنضال لأجل تحقيق المساواة والتحرر.
ولا يمكن الحديث عن هذه الإيديولوجية دون الوقوف عند رموزها ، اللواتي سطّرن ملاحم فكرية ونضالية خالدة. الشهيدة “سكينة جانسيز”، إحدى أعمدة الحركة النسوية الثورية، جسّدت المقاتلة المفكرة التي بقي أثرها يتدفق في شرايين النضال النسائي. أما الشهيدة “زيلان كناجي”، فقد حوّلت فلسفة القائد إلى ذهنية نضالية، ومثلت تحولاً استراتيجياً عبر عمليتها الفدائية، التي لم تُقَيَّم كعمل عسكري فقط، بل كدعوة جوهرية لحزبية المرأة وبناء قوتها الإيديولوجية والتنظيمية.
وفي هذا السياق، يُلخص القائد رؤيته العميقة لدور المرأة بقوله:
“تؤدي المرأة دورا حياتياً من حيث أخلاقيات وجماليات الحياة على ضوء الحرية والمساواة والتحول الديمقراطي، كونها العنصر الأصلي للمجتمع الأخلاقي
والسياسي. وعلم الأخلاقيات والجمال جزء لا يتجزأ من علم المرأة. ولا جدال حول أن المرأة ستحقق انفتاحاً وتطورات عظيمة في جميع ميادين الأخلاقيات والجماليات كقوة فكرية وتطبيقية على السواء بحكم مسؤليتها الثقيلة في الحياة. فأواصر المرأة مع الحياة أوسع بكثير قياسا بالرجل. ورقي الذكاء العاطفي لديها متعلق بذلك. بالتالي، فعلم الجمال موضوع وجودي بالنسبة للمرأة، كونه يعني تجميل الحياة. ومسؤولية المرأة أوسع على الصعيد الأخلاقي أيضاً (نظرية الأخلاق وعلم الجمال = نظرية الجمال). إن تصرف المرأة بمزيد من الواقعية وروح المسؤولية على صعيد المجتمع الأخلاقي والسياسي أمر نابع من طبيعتها، وذلك من حيث تقييم وتشخيص وإقرار الجوانب الحسنة والسيئة فيما يتعلق بالانسانية، وبأهمية الحياة والسلم، وبسوء الحرب وهولها، وبمعايير الحقية والعدالة. وبطبيعة الحال، أنا لا أتحدث عن المرأة الدمية التي كظل الرجل، أتحدث عن المرأة الحرة التي تتمثل العدالة والمساواة والتحول الديمقراطي”
بهذه الرؤية، تصبح المرأة ليس فقط نصف المجتمع، بل روحه المتجددة، وعقله الأخلاقي، وجماله الإنساني المتكامل. وتتحول إيديولوجية تحرر المرأة إلى حجر الزاوية في بناء نظام عالمي جديد، أخلاقي، بيئي، سياسي، يليق بكرامة الإنسان والطبيعة معاً.
عزيزتي القارئة . . . عزيزي القارئ
إننا اليوم أمام ميراث فكري ومعرفي هائل يستحق أن يُبنى عليه مستقبل البشرية. ميراث لا يكتفي القائد فيه بالبحث، بل ينقده ويعيد تشييده، ضمن إطار علمي وفلسفي متكامل. فلنتأمل في رموزنا وشهدائنا، وفي مقدمتهم سكينة وزيلان، اللواتي جسّدن الثورة وكتبن تاريخها بالنور والدم، ننحني أمام عظمة عطائهن، وستبقى سيرتهن نبراساً في طريق تحررنا القادم.
6) عبد الله أوجلان… حرية القائد تجسيد لإرادة الشعوب ومفتاح لحل القضية الكردية:
تميّز القائد عبد الله أوجلان بقدرته الفائقة على استقراء تطلعات الشعوب، والاندماج في وجدان الجماهير، لا فقط في كوردستان، بل في مختلف أنحاء العالم. لم تكن مكانته نتيجة لمنصب أو سلطة، بل لصوته الذي حمل هموم الإنسان وقضاياه العادلة، وفكره الذي ترجم آمال الجماهير إلى رؤى فلسفية وسياسية نابعة من الواقع ومعبر عنه. فأصبح اعتناق الحرية جزءاً أصيلاً من شخصيته، وأيقونة نضالية ألهمت الملايين.
تجلت هذه المكانة الوجدانية والفكرية في الحملات والنشاطات التي انطلقت محلياً ودولياً للمطالبة بحريته، وأبرزها حملة “حان وقت الحرية”، التي لاقت تفاعلاً واسعاً ضمن الأوساط الكردية والإقليمية والعالمية. وتحت مظلتها، نُظّمت فعاليات شعبية ورسائل احتجاج، وصدحت الشعوب بصوت واحد من أجل إنهاء العزلة المفروضة على القائد في سجن إمرالي. وجاءت هذه الحملة تعبيراً صادقاً عن التفاف الجماهير حول رمزية القائد، ورفضهم استمرار عزله السياسي والجسدي.
وسرعان ما أعقب هذه الحملة انطلاقة أوسع وأعمق من خلال الحملة العالمية تحت شعار “الحرية لعبد الله أوجلان… الحل السياسي للقضية الكردية”، والتي حظيت بزخم عالمي غير مسبوق، عبّر عن احتضان شعبي للقضية الكردية، ودعم سياسي وحقوقي علني من قبل شخصيات ومؤسسات من مختلف أنحاء العالم. إذ شارك فيها مثقفون، مفكرون، سياسيون، رجال دين، كتل نسوية، وتنظيمات مجتمع مدني. كما وقّع (٦٩) شخصية حائزة على جائزة نوبل على بيان رسمي يطالب الاتحاد الأوروبي بإنهاء العزلة عن القائد أوجلان، وفتح المجال للقاء به، وهو ما وضع ضغطاً جدياً على الاتحاد الأوروبي ولجنة مناهضة التعذيب، وأحرج مواقفهم الدولية حيال حقوق الإنسان.
وانضم إلى هذه الحملة سجناء الرأي داخل الزنازين التركية، تحت شعار “نعيش الظروف ذاتها مع قائدنا”، لتؤكد مرة أخرى عمق العلاقة المعنوية والروحية بين القائد وقواعده النضالية حتى في أقسى ظروف القمع.
وفي خضم هذا الزخم الشعبي والسياسي، جاءت مبادرة دولة “بخجلي”، والتي استجاب لها القائد بتوجيه نداء في (٢٧ شباط عام ٢٠٢٥م)، بعد عدة لقاءات مع حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أعلن فيه عن “براديغما مانفيستو السلام والمجتمع الديمقراطي”، وهي قفزة فلسفية واستراتيجية تعكس استقراءً دقيقاً للمرحلة الجيوسياسية. وصف القائد هذا النداء بأنه دعوة تاريخية، و”مانفيستو القرن القادم والألفية الجديدة”، في محاولة لتجاوز الانحطاط الأخلاقي والسياسي الذي تعيشه البشرية، على حد تعبيره:
“مهما كان الانحطاط عميقاً فإن تجاوزه يتطلب إلى شخصية عظيمة”
بهذه المبادرة، أخذ القائد على عاتقه مسؤولية تطوير الحل السياسي، وفتح أفق جديدة للنضال التحرري، متجاوزاً العوامل التي تأسس فيها حزب العمال الكردستاني في القرن العشرين، وسط مرحلة كانت مشحونة بالحروب، والأنظمة الشمولية، وإنكار الحقيقة الكردية. وقد كانت تلك المرحلة تشهد صعود الاشتراكية المشيدة والحرب الباردة، والتي أثّرت على الخط النظري والبرنامجي للحركات التحررية. ومع انهيار تلك الاشتراكية، وانكشاف سياسات الإنكار، وظهور بوادر حرية الفكر، أدرك القائد أن الحزب بحاجة إلى تجديد جذري. فكان النداء استباقاً تاريخياً لإعادة صياغة المشروع التحرري في ضوء متغيرات العصر.
وقد أعلن حزب العمال الكوردستاني استجابته الكاملة لنداء القائد، وقال في بيان رسمي: “نحن كحزب مع قرارات القائد آبو”، وأعلن وقف إطلاق النار كخطوة ثانية للمضي في مسار الحل السياسي.
لكن وعلى الرغم من هذا الإعلان، لم تتوقف الدولة التركية عن شن الهجمات على مناطق الدفاع المشروع، وشنكال، وشمال وشرق سوريا. بل تحاول بوضوح دفع قوات الكريلا للرد من أجل إفشال قرار التهدئة وإثارة الاستفزازات، الأمر الذي يكشف عن ازدواجية في المواقف التركية، ورفض ضمني لأي مسار سلمي عادل.
لقد تحوّلت حرية القائد أوجلان إلى قضية ضمير عالمي، وإلى محور يُجمع عليه الأحرار من شتى الشعوب. فهي ليست مسألة شخصية، بل تعني بوابة عبور نحو حل جذري وعادل للقضية الكوردية، وتحقيق السلام الديمقراطي في المنطقة.
إن الدعوة لتحرير القائد عبدالله أوجلان، هي في جوهرها دعوة لبناء شرق أوسط جديد، مبني على الحرية والمساواة والعدالة بين الشعوب.
هذا مضمون النداء التاريخي هنا يأتي مصطلح الفسخ عصارة التجارب واخذ الظروف الموضوعية بعين الاعتبار هنا يرجح القائد تحكيم العقل ومواكبة التغييرات بتجلي فكري وسياسي وتولي المسؤولية الكاملة والاستعداد التام للتحالف إن تهيئت ركيزة قانونية ثابتة لخطوة حاسمة نحو تحقيق السلام المنشود وضمان الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي. تكمن أهمية هذه القاعدة في كونها جسراً يُنقل قوات الحزب بين شطَّي الصراع المسلح والكفاح السياسي، وذلك من خلال التواصل المثمر مع الدولة التركية ومؤسساتها، تحت راية الدستور الذي يحمل مبادئ العدالة والتسامح وتعزيز الوحدة الوطنية.
تعتبر هذه الدعوة بمثابة الولادة الرابعة لمنحى القضية؛ فمرة أخرى، نرى الحقيقة والحرية والديمقراطية الحكمة والحب والعشق والمساواة والرفاقية والمحبة والعدالة تتجسّد في محتوى الرسالة.
لذلك، الدعوة لإلقاء السلاح تُعتبر حلاً للقضية الكردية وبدايةً لحل أزمات الشرق الأوسط. ينبغي التعقيب على أن وجود قوات مسلحة منظمة ومبتكرة في المستوى العسكري والفكري كتلك التي يتحلى بها حزب العمال الكوردستاني، يُعتبر تحدياً كبيراً. ومع ذلك، لا تشير المعطيات إلى أن الدولة التركية تظهر رغبة جادة في تلبية دعوة القائد، حيث يتعين على الدولة التركية بدورها العمل على تحقيق التوافق المتبادل. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب استجابة دعوة القائد لعقد مؤتمر خطوات جدية لتنفيذه، خاصة وأنه لا يزال محتجزاً وتستمر السلطات التركية في متابعة سياسة التجريد.
والصمت مازال قائماً دون تعليق أو أي خطوات نحو إحياء تطور ملحوظ. المسؤولية عن هذه العُقْدَة التاريخية تتطلب تحمل الأعباء من قبل كلا الطرفين من أجل نجاح الدعوة للحل السياسي. تلبية نداء مبادرة “بخشلي” تتطلب أيضاً اتخاذ خطوات جدية وتوفير الشروط والظروف اللازمة للبدء باتخاذ إجراءات لضمان سلامة القائد والعمل على إنشاء لجان وتعديل بعض القوانين والدستور من قبل المجلس العام الوطني التركي. في حال تحفظت السلطات التركية عن إعطاء الرد وانتظار حزب العمال لتسليم السلاح دون أي ضمانات ملموسة، فإن النهج الذي تم اتباعه سابقاً في قمع الحركات الكردية وتصفية رموزها لم يعد يجدي نفعاً، حيث أصبح حزب العمال يملك منظومة لها إطار علمي وفلسفي موضوعي، ولن ينجر خلف الخدع. ينبغي على الدولة فتح الطريق واتخاذ إجراءات فعّالة لتسهيل الانتقال السلمي من ساحة الحرب والعنف إلى ساحة النضال السياسي والثقافي، وأن تتقاسم المسؤولية الكاملة لحماية الدعوة، فهي دعوة شاملة لا تتعلق بالقائد فقط، بل تتعلق بكل شريك في الدولة وخارجها. بالطبع، ستنعكس تلك الخطوات على الدول الإقليمية والشعبين بشكل لا يمكن الاستغناء عنها.
وفي أعقاب الدعوة التاريخية التي أطلقها القائد في (٢٧ شباط) العام الجاري، أعلن حزب العمال الكوردستاني عن عقد مؤتمره الثاني عشر بنجاح في مناطق الدفاع المشروع، وذلك في الفترة من (٥ – ٧) أيار.
ظهر أردوغان وخرج من مخدع الصمت، وأدلى بأول بيان له بعد الإعلان عن انعقاد المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني.
وذكر أردوغان أنهم لن يشاركوا في الألاعيب التي تسعى إلى إغراق المنطقة بمزيد من الدماء والفوضى والدموع وحالة من عدم الاستقرار، وقال:
“ردُّنا على أولئك الذين يحاولون إفشال العملية سيكون في احتضان بعضنا البعض؛ (٨٦) مليوناً سيتبادلون المحبة والسلام، وسنعزِّز بعضنا البعض، ونرفع من شأن بعضنا البعض بالمحبة والوحدة. سنبني معاً قرناً تركياً جديداً، مبنياً على أسس الديمقراطية والتقدم والسلام والعدالة.
ربما تتلقون البشارة والأخبار المفرحة في أية لحظة”.
هذه الحقيقة، وهذا الواقع، هما نتيجة جهود عظيمة شهدتها المرحلة، حيث وُضعت الأعمدة الأساسية من خلال نداء القائد للسلام والمجتمع الديمقراطي.
ولا ننسى شهداء المبادرة، حيث واكب الشهيد “ثريا أوندر” عمق المباحثات، وكان له دورٌ محوريٌّ في عملية السلام، ومثلما وصفه القائد: “معمار ثقافة السلام
وما زال سياق الكفاح من أجل تحقيق السلام يسير وفق توافقات تهدف إلى تمكين حقوق الشعب الكردي.
هنا يجب أن تتقرب وجهات نظر العقلاء، ومع أن الأنظمة الدكتاتورية تجد صعوبة في تحقيق السلام. نداء القائد لدعوة “السلام والمجتمع الديمقراطي” سيكسر أوثان الجهل. النداء هو رحلة نحو النيرفانا، حيث يمثل القائد الروح التي تسير في مسيرة نحو السلام والمجتمع الديمقراطي.
- يمثّل “نداء السلام”، كما صاغه القائد عبد الله أوجلان، أفقاً جديداً للإنسانية، وقد تبلور هذا الأفق من خلال ما قدّمه من روح فلسفية، وبُعد أخلاقي، ونهج تحرّري يحيي المرأة وينهض بالمجتمع. إنه تجلٍّ عصري لما يمكن وصفه بـ”النيرفانا” العصرانيةالديمقراطيةالنموذج الامثل، حيث تلتقي الروح بالحرية، وتتشكل البراديغما الجديدة كجناحي سلام يحلقان فوق ظلمات الهيمنة.
في إطار علم الوجود المعاصر، تلامس فلسفة القائد تعاليم زرادشت، حيث الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين “أهورامزدا” رمز الحكمة و”أهريمان” ممثل الشر. وهي مقاربة رمزية تكشف عمق التركيبة الكونية للفكر الأوجلاني، الذي لا يكتفي بطرح الفكرة بل يتجاوزها إلى نقدها وتفكيكها وإعادة بنائها ضمن مشروع تحرري شامل.
ولعل من أعمق تجليات هذه الفلسفة، اقترانها بروح المسيح وحوارييه، لا من منظور ديني فقط، بل من حيث “كيفية العمل”، وتجاوز الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي عبر مشروع فكري – معرفي – سياسي – إيكولوجي متكامل، تجسّده الحداثة الديمقراطية كبديل تاريخي لما أنتجته خمسة آلاف سنة من أنظمة الهيمنة.
في قلب هذا المشروع، يظهر القائد كـ”سبارتاكوس كوني”، ليس فقط كمتمرد على الظلم، بل كحامل لرسالة تحرر شاملة تنفجر من داخل جدران إمرالي – “جزيرة التابوت” – لتعلن انبثاق البراديغما الجديدة ذات الأجنحة الحرة.
وهكذا كما وقف سقراط في محكمة أثينا يرفض الهروب، ويختار تجرّع السم لأنه يؤمن أن “الحياة دون تجربة لا تستحق أن تعاش”، يقف القائد أوجلان في إمرالي شاهداً على المعنى الأعمق للوجود، متحدياً السجن بالمعرفة، والعزلة بالفكر، والإنكار بالحب.
وكما تحدّث “نيتشه” في كتابه “هكذا تكلّم زرادشت”، وكما تخيّل “توماس مور” مدينته الفاضلة في كتاب “اليوتوبيا”، يطرح القائد رؤيته لمجتمع حر، ديمقراطي، متصالح مع ذاته ومع الطبيعة، تقوده فلسفة متجذّرة في الحياة ومتحررة من الأوهام.
ويُعدّ “اقتران الأجنحة” بين حركة حرية المرأة (PAJK)، وفكر القائد أوجلان (APO)، ومسيرة حزب العمال الكردستاني (PKK) تجسيداً روحياً وفكرياً لما يمكن تسميته بـ”الاقتران العظيم”، تماماً كما حدث بين كوكبي المشتري وزحل في ظاهرة فلكية نادرة. فكما تتناغم عناصر الكون في دورتها، تتناغم هذه القوى التحررية في سعيها نحو تحقيق أفق إنساني جديد، حيث تكون البراديغما ناقلة لرسالة سلام كوني عبر الزمن.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أعبّر عن تقديري وامتناني لمن أعطى المعنى للحياة ونموذجيتها للإنسانية وتوجيهها نحو النور في حرية الفكر، والدعوة لكل إنسان أن يتعرف ويتذوق جوهر التحوّل الذي تقدّمه هذه الفلسفة الثورية، التي وضعت الإنسان بشكل عام – والمرأة على وجه الخصوص – في مركز مشروعها. إن ما قدّمه القائد عبد الله أوجلان ورفاقه من تضحيات ومواقف، لا يُعدّ فقط خدمة لشعب، بل نداء صادق من أجل الإنسانية جمعاء.
مع أرقى مشاعر الحب والاحترام والتقدير،
لكل من يسير في درب الحرية، ولكل امرأة اختارت أن تكون رفيقة النضال الأوجلاني..