المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

تقييمات القائد عبد الله أوجلان لخلاص الصراع العربي–الإسرائيليّ

42

وضع القائد عبد الله أوجلان عدة حلول لحل قضايا الشرق الأوسط، ومن بينها إسرائيل، ويرى القائد إن كانت إسرائيل تود الخلاص من حالة الأسر للنظام الذي أوجدته فالعصرانيةُ الديمقراطيةُ خيارٌ يُشَكِّلُ طريقَ الحلِّ المستدامِ والوطيدِ ضمن معمعةِ الشرقِ الأوسط.

تقييمات القائد عبد الله أوجلان لخلاص الصراع العربي–الإسرائيليّ

 26 يلول 2024    04:00

مركز الاخبار

يقيّم القائد عبد الله أوجلان في مرافعته بالمجلد الخامس” القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” المعنون في الفصل السابع: أزمة الشرق الأوسط وحل العصرانية الديمقراطية، الدولة القومية العربية وهيكلية إسرائيل.

ويشير القائد عبد الله أوجلان “لن يتخلصَ الصراعُ العربيُّ–الإسرائيليُّ أو الفلسطينيُّ–الإسرائيليُّ، من التشبُّهِ بصراعِ الفأرِ والقِط فما يتجلى في النتيجةِ هو هدرُ طاقةِ الحياةِ لدى الشعوبِ العربيةِ قاطبةً في معمعانِ هذه الاشتباكاتِ الواضحةِ النتيجةِ سلفاً، والتي تدورُ رحاها قرابةَ قرنٍ بأكملِه. ولو لَم تُفتَعَلْ هذه الاشتباكاتُ والصراعات، لَكان هناك وطنٌ عربيٌّ نظيرٌ لعشرةِ أمثالِ اليابان من حيث وارداتِه النفطيةِ فقط”.

ويذكر القائد عبد الله أوجلان في مرافعته كما يلي: “أحدُ المصادرِ الأخرى لأزمةِ الشرقِ الأوسط، هو تشييدُ الدولِ القوميةِ العربيةِ وإسرائيل بشكلٍ متزامن. حيث استَخدَمَت إنكلترا الشيوخَ العربَ ككبشِ فداء، عندما باشرَت بالتمشيطاتِ العسكريةِ على الإمبراطوريةِ العثمانيةِ بدءاً من مطلعِ القرنِ التاسع عشر. كما استَخدَمَت رجالَ الدينِ الأرثوذكسيين ذوي الأصولِ الإغريقيةِ في البلقان، وآزَرَت تشييدَ الدولةِ القوميةِ اليونانية؛ مُسَرِّعةً بذلك من انهيارِ الإمبراطوريةِ في بلادِ البلقان. وبدأَت بالنشاطِ نفسه في شبهِ الجزيرةِ العربيةِ الموجودة جنوبَ الإمبراطورية، والمتسمةِ بموقعٍ استراتيجيٍّ على طريقِ الهند. إذ باشرَت بدعمِ الدولتيةِ القوميةِ العربية، مستفيدةً من مساندةِ الشيوخِ الذين يمثلون قمةَ الهرمِ لعلماءِ الدين المسلمين. وكانت لها في الوقتِ نفسه، محاولاتٌ مثيلةٌ مع زعماءِ الطرائقِ الدينيةِ (وعلى رأسِهم النقشبنديين والقادريين) المنحدرين من مدينةِ السليمانيةِ عن طريقِ كردستان أيضاً. وأَحكَمَت رقابتَها طردياً على جنوب المملكةِ الإيرانية. وهكذا، فإنّ المرحلةَ المبتدئةَ بالتمردات، قد استمرّت مع أنظمةِ الانتدابِ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى، لتنتهيَ إلى التشييدِ التامِّ للدولِ القوميةِ مع الحربِ العالميةِ الثانية. وتمَّت تصفيةُ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ في تلك الأثناء، ليتكوَّنَ (أو ليَتمَّ تكوينُ) فراغٍ شاسعٍ في المنطقةِ حصيلةَ ذلك.

وبعكسِ ما فعلَت في بلادِ الهند، لَم تستقرّ إنكلترا في المنطقةِ كقوةٍ استعماريةٍ مباشرة. لكنها في الوقتِ عينِه لَم تتركْ أيةَ قوةٍ منافسة. فهدَفَت إلى تشييدِ الجمهوريةِ التركيةِ وهيكلتِها بمَعِيّةِ أنظمةِ الانتدابِ العربيةِ ضمن ذاتِ الإطار (كان المحورُ الرئيسيُّ للنقاشاتِ الدائرةِ في مؤتمرِ سيواس متعلقاً بالانتدابِ الإنكليزيِّ أو الأمريكيّ) وفي التاريخ نفسه عام (1920). لكنّ السلوكَ الراديكاليَّ الذي اتَّبَعَه مصطفى كمال (موقفُه الشبيهُ جداً بالموقفِ الجمهوريِّ الراديكاليّ، الذي سلكَه الجبليون، أي روبسبيير ورفاقُه في الثورةِ الفرنسية، ضد المَلَكيةِ الدستوريةِ البرلمانيةِ التي كانت خطةً إنكليزية)، قد صَبَّ النتيجةَ النهائيةَ في مجرى الجمهورية. لكن، لَم يتغيرْ أيُّ شيءٍ مضموناً. فالأنظمةُ العربيةُ تحت الانتدابِ كانت قد تحولَت بعد فترةٍ قصيرةٍ إلى دولٍ قوميةٍ مشابهة. وإطلاقُ تسمياتِ المملكةِ أو الجمهوريةِ عليها لَم يُغيِّرْ من جوهرِ الدولتيةِ القوميةِ الصغرى.

يُصادِفُ تسريعُ ولادةِ إسرائيل أيضاً في هذه المرحلة. وبالإضافةِ إلى ما ذُكِرَ بشأنِ القبيلةِ اليهوديةِ في الفصولِ السابقة، علينا التبيانُ مرةً أخرى أنّ جذورَ إسرائيل تَرتكزُ على تلك القبائل وأيديولوجيتِها (الأيديولوجية اليهودية والأديانُ التوحيديةُ والقومويات). أي إنّ إسرائيل في جوهرِها نتيجةٌ طبيعيةٌ لحروبِ الدولةِ القومية، التي أينَعَت في أعوامِ 1550 في هيئةِ دولةٍ حديثةٍ على خطِّ أمستردام–لندن، واستمرّت قُرابةَ أربعةَ قرون، مُحَوِّلةً أوروبا إلى حَمّاماتِ دم. ولَطالما لعبَت الميولُ الفكريةُ اليهوديةُ ورأسُ المالِ (الرأسمالية) اليهوديّ دوراً ريادياً في تشييدِ الدولةِ القومية. حيث كانت القناعةُ السائدةُ هي أنّ اليهودَ لن يتمكنوا من نيلِ حريتِهم أو من تأسيسِ دولةٍ إسرائيليةٍ يهوديةٍ على خلفيةِ المُثُلِ الصهيونيةِ للقومويةِ اليهوديةِ المتصاعدةِ مع الوقت؛ إلا بتمزيقِ أوصالِ الإمبراطورياتِ الكاثوليكيةِ والأرثوذكسيةِ والإسلامية. وقد أَينَعَت هذه النشاطاتُ العقائديةُ الواعيةُ والمنظَّمةُ عشيةَ وأثناءَ وإبانَ الحربِ العالميةِ الأولى. ففي الأوساطِ المتمخضةِ عن بناءِ الدولةِ القوميةِ للجمهوريةِ التركيةِ الصغرى على أنقاضِ الإمبراطوريةِ العثمانية، إلى جانبِ بناءِ عددٍ جمٍّ من الدولِ القوميةِ العربيةِ الصغرى؛ قد أُعلِنَ عن الدولةِ القوميةِ اليهوديةِ إسرائيل رسمياً (1948)، والتي هدفَت إليها الإيديولوجيةُ الصهيونيةُ المقدسة. وكانت الجمهوريةُ التركيةُ أولَ دولةٍ قوميةٍ تعترفُ بها، وكأنها بذلك تؤكدُ جوهرَها من حيث كونِها إسرائيل بِدئية.

تشييدُ وإعلانُ إسرائيل ليس حدثاً اعتيادياً. فقد وُلِدَت إسرائيل كقوةٍ مهيمنةٍ نواةٍ لهيمنةِ الحداثةِ الرأسمالية، التي ملأَت فراغَ السلطةِ الناجمَ عن تحويلِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ والمَلَكيةِ الإيرانيةِ إلى دولٍ قوميةٍ صغرى تابعة، بعدَما كانتا آخِرَ قوتَين مهيمنتَين في المنطقة. وتشييدُ إسرائيل كقوةٍ مهيمنةٍ نواةٍ أمرٌ بالغُ الأهمية. فهذا ما مفادُه أنه سيتمُّ الاعترافُ بشرعيةِ الدولِ القوميةِ الأخرى في المنطقةِ في حالِ اعتَرَفَت هي بوجودِ إسرائيل كقوةٍ مهيمنة. وأنه في حالِ عدمِ اعترافِها بها، فسيجري تجييرُها وإرهاقُها بالحروبِ إلى أنْ تعترفَ بها. ونظراً لأنّ الجمهوريةَ التركيةَ ومصر والأردنّ وبعضَ دولِ الخليجِ كانت أولَ مَن اعترفَ بإسرائيل، فقد اعتُرِفَ بها دولاً قوميةً شرعية، وأُدرِجَت بالنظامِ القائمِ بناءً على ذلك. في حين لا تنفكُّ الحربُ دائرةً بين إسرائيل وحلفائِها من جهة، والدولِ الأخرى المتبقيةِ من الجهةِ الثانية. أما الحروبُ والاشتباكاتُ مع العربِ ضمن إطارِ القضيةِ الفلسطينية، ومع البلدانِ الإسلاميةِ الأخرى ضمن إطارِ إشكاليةِ الخليج؛ فهي على علاقةٍ كثيبةٍ بالوجودِ المهيمنِ لإسرائيل داخل المنطقة. إذ سوف تظلُّ هذه الاشتباكاتُ والمؤامراتُ والاغتيالاتُ والحروبُ متأججةً إلى حين الاعترافِ بهيمنةِ وسيادةِ إسرائيل.

من هنا، لن نستطيعَ فهمُ أسبابِ إنشاءِ اثنتَين وعشرين دولةً قوميةً عربيةً بمنوالٍ صحيح، ما لَم نفهم الهيكلةَ السياديّةَ للحداثةِ الرأسماليةِ داخل الشرقِ الأوسطِ بعينٍ صائبة. بمعنى آخر، محالٌ تحليلُ الحداثةِ الرأسمالية، التي تمّ تأسيسُها في الشرقِ الأوسط، بعينٍ سليمةٍ من منظورِ الشروحِ التاريخية، اليمينيةِ منها واليسارية، أو الدينيةِ والمذهبية، أو الأثنيةِ والقومويةِ للنزعةِ الاستقلاليةِ لدى البورجوازيةِ الصغيرةِ ذاتِ الطابعِ الدولتيِّ القوميّ. وتأسيساً على ذلك، فإنّ إدراكَ القضيةِ العربيةِ كما هي في الواقعِ القائم (مثلما الحالُ بشأنِ الإدراكِ السليمِ لقضايا الجمهوريةِ التركيةِ والجمهورياتِ والجماعاتِ التركياتيةِ الأخرى)، يتطلبُ أولاً الفهمَ الصحيحَ لموضوعِ بناءِ وتأسيسِ هيمنةِ الحداثةِ الرأسماليةِ في الشرقِ الأوسط. حيث لا يمكنُ فهمُ قضيةِ أيةِ دولةٍ أو مجتمعٍ بناءً على الذهنياتِ المعنيةِ بالتاريخِ والمجتمع، والتي تستهزئُ بالحقائقِ من قبيلِ “التشييدِ البهيِّ للدولةِ القوميةِ” الفلانيةِ بمنوالٍ مجردٍ ومنفرد. بالتالي، ومثلما لا تتعلقُ القضيةُ العربيةُ بإسرائيل فقط، فإنه لا يُمكنُ اختزالُها إلى مستوى القضيةِ الفلسطينيةِ–الإسرائيليةِ فحسب. في حين أنّ أعقدَ وأولى القضايا التي تعاني منها المجتمعاتُ العربية، تنبعُ قبلَ كلِّ شيءٍ من تقسيمِ العربِ إلى اثنتَين وعشرين دويلة قومية. فهذه الدولُ الاثنتان والعشرون لا تستطيعُ الذهابَ في دورِها أبعدَ من كونِها تنظيماً عميلاً جماعياً للحداثةِ الرأسمالية. ووجودُها بحَدِّ ذاتِه يُعَدُّ الإشكاليةَ الرئيسيةَ على الإطلاقِ بالنسبةِ للشعوبِ العربية. بالتالي، فالقضيةُ العربيةُ مرتبطةٌ ببناءِ وتأسيسِ الحداثةِ الرأسماليةِ في المنطقة. ولا إشكالية جدية إلا في هذا الإطار، أي ارتباطاً بإسرائيل بوصفِها قوةً مهيمنةً في المنطقةِ ارتباطاً بالحداثةِ الرأسمالية.

لكن، علينا ألا نتغافلَ عن أنّ القوى التي شادَت إسرائيل هي نفسُها التي شادَت الدولَ القوميةَ العربيةَ الاثنتَين والعشرين. بالتالي، فتجاذُباتُها وتنافُراتُها مع إسرائيل تتسمُ بماهيةِ التمويه. ونظراً لتشاطُرِها النظامَ المهيمنَ عينَه من حيث المضمون، فإنّ تناقضاتِها معها لن تَكونَ ذات معنى، مهما كانت جدية، إلا إذا تجرأَت على الخروجِ من إطارِ الحداثةِ الرأسمالية. وإلا، فكيف لك أنْ تنضوي تحت كنفِ هيمنةِ الحداثةِ الرأسماليةِ عينِها، دون أنْ تعترفَ بإسرائيل! إنّ الدبلوماسيةَ المُقَنَّعةَ والزائفةَ تنبعُ بالتحديدِ من إنكارِ هذه الحقيقة. فجميعُ المقارباتِ الإسلاميةِ القوموية، التي يُرادُ إحلالُها محلَّ الحداثةِ الرأسمالية، هي محضُ رياء؛ سواءٌ الإسلامُ الراديكاليُّ منها أم الإسلامُ المعتدل أم إسلامُ الشيعة. فهذه النزعةُ الإسلاميةُ أداةٌ أيديولوجيةٌ خاصةٌ بالرأسمالية، إذ تُسَلِّطُها على البلدانِ الإسلاميةِ في الشرقِ الأوسط، ولا علاقةَ لها بالحضارةِ الإسلامية. بل هي نسخةٌ مشتقةٌ من القومويةِ المتصاعدةِ في كنفِ هيمنةِ الحداثةِ الرأسماليةِ اعتباراً من مطلعِ القرنِ التاسع عشر. والنزعاتُ الإسلاميةُ السياسيةُ البارزةُ في القرنَين الأخيرَين، لا تتعدى كونَها عميلةً مقَنَّعةً للهيمنةِ الرأسمالية؛ لأنها صُمِّمَت لهذا الغرض، ودُفِعَت للحِراكِ ارتباطاً بالحداثةِ الرأسمالية. وبالأساس، فعجزُها عن أداءِ دورٍ يتخطى تجذيرَ القضايا الوطنيةِ والاجتماعيةِ داخل منطقةِ الشرقِ الأوسطِ خلال القرنَين الأخيرَين، إنما يؤيِّدُ هذه الحقيقة. وعليه، فهي تُشَكِّلُ العوائقَ الأيديولوجيةَ والسياسيةَ الأساسيةَ أمام الكوموناليةِ والوطنيةِ الديمقراطية. أما الإسلامُ الثقافيّ، فهو موضوعٌ مختلف. وتَبَنّي هذا الإسلامِ والدفاعُ عنه ارتباطاً بالتقاليدِ له جانبُه الثمينُ والإيجابيّ.

إذا لَم يتخطَّ تبعيتَه للحداثةِ الرأسمالية، فلن يتخلصَ الصراعُ العربيُّ–الإسرائيليُّ أو الفلسطينيُّ–الإسرائيليُّ من التشبُّهِ بصراعِ الفأرِ والقِط. فما يتجلى في النتيجةِ هو هدرُ طاقةِ الحياةِ لدى الشعوبِ العربيةِ قاطبةً في معمعانِ هذه الاشتباكاتِ الواضحةِ النتيجةِ سلفاً، والتي تدورُ رحاها قرابةَ قرنٍ بأكملِه. ولو لَم تُفتَعَلْ هذه الاشتباكاتُ والصراعات، لَكان هناك وطنٌ عربيٌّ نظيرٌ لعشرةِ أمثالِ اليابان من حيث وارداتِه النفطيةِ فقط.

أهمُّ نتيجةٍ نستخلصُها من هذا التشخيص، هي أنّ منهجيةَ الدولةِ القوميةِ في الشرقِ الأوسطِ ليست منبعَ حلٍّ للقضايا الوطنيةِ والاجتماعيةِ الأساسيةِ حسبما يُزعَم. بل إنها منبعُ تصعيدِ وتجذيرِ وتفاقُمِ وعُقمِ هذه القضايا. ذلك أنّ الدولةَ القوميةَ لا تحلُّ القضايا، بل تنتجُها. بل وأبعد من ذلك، فالنظامُ نفسُه لا يقتصرُ على تأليبِ دولِ الشرقِ الأوسطِ على بعضِها بعضاً. بل إنه وسيلةٌ لتأجيجِ النزاعات بين مجتمعاتها أيضاً إلى أن تَخُورَ قواها. وحقيقةُ العراقِ تؤكدُ مصداقيةَ هذا التشخيصِ بأحسنِ صورة.

لا نستطيعُ إلقاءَ الحِملِ كلياً هنا على عاتقِ الحداثةِ الرأسمالية. ذلك أنّ الأيديولوجياتِ الإسلامويةَ واليساريةَ (الاشتراكية المشيدة) والتنظيماتِ السياسيةَ البارزةَ بصفتِها تحرريةً ومناسِبةً لحل القضية، مسؤولةٌ هي أيضاً عن ذلك، بقدرِ العناصرِ الحاملةِ للحداثةِ الرأسماليةِ على الأقلّ . فكيفما أنّ أيَّ أسلوبٍ أو منهاجٍ اقترحَته على شعوبِها منذ حوالي قرنٍ من الزمانِ لَم يسجلْ أيَّ نجاحٍ يُذكَر، فإنها لَم تتمكنْ من لعبِ دورٍ يتعدى خدمةَ بناءِ الحداثةِ الرأسمالية إقليمياً، وتوظيفَ نفسِها لهذا الغرض. ولا يمكننا إنكارُ دورِ هذه الحقائق، تأسيساً على أيديولوجياتِ الدولتيةِ القوميةِ العربيةِ والتنظيماتِ السياسيةِ أيضاً.

القضايا العربيةُ أيضاً كالقضية التركية، ليست عصيةً على الحل. إذ تدورُ مساعينا هنا لتحليلِ القضايا على محورَين رئيسيَّين: يعتمدُ المحورُ الأولُ على مضاعفةِ الحصةِ من أجهزةِ الدولةِ والمجتمعِ تحت كنفِ النظامِ القائم، وعلى افتعالِ النزاعاتِ اللازمةِ بغيةَ حصدِ النتيجةِ المرجوة. هذه هي النتيجةُ التي تطلعَت الدولُ القوميةُ العربيةُ –بما فيها منظمةُ التحريرِ الفلسطينية– للوصولِ إليها عبر الاشتباكاتِ التي جرَّبَتها طيلةَ العقودِ الخمسةِ الأخيرة. وسيُعمَلُ على إتمامِ هذا المحورِ عاجلاً أم آجلاً، عن طريقِ معاهدةٍ شبيهةٍ بمعاهدةِ كامب ديفيد المُبرَمةِ مع مصر. لكنّ هذا الطريقَ لا يعني أكثر من زيادةِ وطأةِ القضايا الاجتماعيةِ العربية، وحَملِها بالتالي على اتِّباعِ الحلولِ الراديكالية. قد يحظى هذا الطريقُ برضى الدولِ القوميةِ العربيةِ الأوليغارشية، التي تُسنِدُ ظَهرَها إلى البترول. ولكنه لن يستطيعَ البتةَ تلبيةَ مطالبِ شعوبِها الاقتصاديةِ والديمقراطيةِ الأكثر عمقاً. فالشعوبُ العربية تعاني من قضايا اقتصاديةٍ وديمقراطيةٍ متراكمةٍ كالجبالِ الشاهقةِ على مرِّ التاريخ. دعكَ جانباً من أنْ تقومَ الدولُ القوميةُ العربية، التي غدَت قمراً يدورُ في فلكِ الحداثةِ الرأسمالية، بحلِّ تلك القضايا؛ بل إنها لا تودُّ التلفظَّ حتى باسمِ الحلّ. وقد ضاعفَت من حِدَّتِها باستمرار، وعَمِلَت على التواري خلف الصراعاتِ الدينيةِ والمذهبيةِ الزائفةِ والمُصطَنعةِ على الدوام. بحيث انتقلَت بالقضايا العالقةِ إلى طَورٍ بات لا مفرّ فيه من الانحلالِ والتبعثرِ والتوجهِ صوبِ الاشتباكِ حتى الرمقِ الأخيرِ مثلما يُشاهَدُ في مثالِ العراق، أو المطالبةِ دون بُدٍّ بالحلولِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ والوطنيةِ الديمقراطيةِ الجذرية.

لا يُمكنُ الحديثُ عن المحورِ الرئيس الثاني في حلِّ القضايا العربية، إلا على خلفيةِ تجاوُزِ الحداثةِ الرأسمالية. إننا نتحدثُ عن الانقطاعِ عن النظامِ القائم. إذ يتحتمُ المعرفة يقيناً أنه يَصعبُ على الراديكاليةِ الإسلاميةِ أو الإسلامِ السياسيِّ أنْ يُشَكِّلا حداثةً بديلة. حيث ليس باستطاعةِ الإسلامِ أنْ يلعبَ دورَه كثقافة، إلا في ظلِّ حياةٍ تَسودُها عصرانيةٌ بديلةٌ للحداثةِ الرأسمالية. وأقوى وأصحُّ خيارٍ للشعوبِ العربية، هو براديغما العصرانيةِ الملائمةِ للحقائقِ والوقائعِ التاريخيةِ والاجتماعيةِ لشعوبِ الشرقِ الأوسطِ جمعاء. والعصرانيةُ البديلةُ من أجلِ الشعوب، هي العصرانيةُ الديمقراطيةُ التي لَطالما كافحَت ضد الحداثةِ الرأسمالية، والتي تتألفُ من الأمةِ الديمقراطيةِ ومن مجموعِ الحركاتِ الاشتراكيةِ والأيكولوجيةِ والفامينيةِ والثقافية.

تتعلقُ حزمةُ القضايا، التي تحتلُّ المرتبةَ الثانيةَ ارتباطاً بالقضايا العربية، بوجودِ إسرائيل. فنظرةُ النزعاتِ القومويةِ والإسلامويةِ والدولتيةِ القوميةِ العربيةِ حيالَ إسرائيل، قد أُطلِقَت بتوجيهٍ من هيمنةِ الأيديولوجيا اليهوديةِ–الإسرائيليةِ بالتحديد، بحيث تدورُ ضمن الحدودِ المرسومةِ من قِبَلِ هذه الأيديولوجيا ودولتِها. ولدى البقاءِ في كنفِ نفسِ الحداثة، فلن تتَعَدَّ كونَها ألعوبةً بيَدِ الهيمنةِ الإسرائيلية ذات التعداد السكانيّ القليل. كما لن تتخلصَ إسرائيلُ بذاتِ نفسِها من التحولِ إلى أسيرٍ للحداثةِ الرأسماليةِ التي ابتَكَرَتها بذاتِ يَدَيها. ولن تتقاعسَ إسرائيلُ قطعياً عن حمايةِ نفسِها ارتكازاً إلى تَفَوُّقِها في حقلِ السلاحِ التقنيّ، بما في ذلك الذّرّة؛ في حالِ شعَرَت بوجودِ القوى المتأهبةِ حولَها لخنقِها في كلِّ لحظةٍ وإغراقِها في عرضِ البحرِ العربيِّ الواسع. بناءً عليه، إما أنه على إسرائيل أنْ تخلقَ التوازنَ مع دولٍ قوميةٍ شرقِ أوسطيةٍ متسالمةٍ معها في ظلِّ هيمنتِها هي، وقد تَبَدّى للمَلأِ مدى صعوبةِ ذلك انطلاقاً من الأسبابِ التي حاولنا سردَها. أو أنْ تضعَ تجاوُزَ الحداثةِ الرأسمالية نُصبَ عينَيها، إنْ كانت تودُّ الخلاصَ من حالةِ الأَسْرِ للنظامِ الذي أَوجَدَته. وتُعتَبَرُ العصرانيةُ الديمقراطيةُ خياراً يُشَكِّلُ طريقَ الحلِّ المستدامِ والوطيدِ ضمن معمعةِ الشرقِ الأوسط. ليس لأجلِ القضيةِ اليهوديةِ فحسب، بل ولأجلِ قضيةِ دولةِ إسرائيل المُحاطةِ بالوحوشِ القومويةِ والدينيةِ المتشددة، التي خلقَتها بكِلتا يدَيها.