المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

الركائز الأساسية لاستراتيجية نظام الفوضى الدائمة في الشرق الأوسط الجديد

12

تزامناً مع الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران، بات من الضروري إجراء إعادة تقييم استناداً إلى الخطابات السائدة في دوائر مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وواقع الشرق الأوسط، ويجب عدم التغافل عن حقيقة أن هناك توافقٌ في الآراء حول موضوع السياسة الهيمنية في الشرق الأوسط وتصميمٌ متوسط ​​المدى، على الأقل على الصعيد الدولي للقرن المقبل.

إن الحدود التي رسمها سايكس-بيكو في عام 1916 قد أصبحت الآن مجرد خطوط على الخريطة، وهذا لا يدل على تفكك النظام الإقليمي فحسب، بل يدل أيضاً على فقدان معناه على مستوى أعمق، حيث بدأ هذا النظام بالتفكك في القرن الحادي والعشرين، فمع تطور التدخل في العراق، والحركات الشعبية التي استمرت مع الربيع العربي، والحروب بالوكالة، والعملية التي بدأتها إسرائيل في السابع من أكتوبر، والاستراتيجيات الأمريكية للانسحاب-العودة، وصعود المحور الروسي-الإيراني وما تلاه من تقييد، كل ذلك أدى إلى تفكك خريطة سايكس-بيكو ومنطقها.

هذا النموذج هو استراتيجية فترة انتقالية مؤقتة، وأيضاً نموذج أولي لبنية يُراد لها أن تصبح دائمة، حيث ظهر هذا النموذج في البداية كإيجاد حل مؤقت بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، وجزئياً لإنجلترا. إن الاحتلال المباشر لم يعد ممكناً بعد الآن في العراق وليبيا ولبنان وفلسطين وسوريا، بل تم تطوير مفاهيم جديدة لإيجاد بدائل، كما أنها كانت مُكْلفة للغاية وكان هناك احتمال فقدان السيطرة، إذ كان من السهل تدمير وإسقاط الدول، ولكن كان من الصعب إقامة دول جديدة بسبب وجود مقاومة ثقافية، لذلك تطَوَّرَ منطق واستراتيجية “فلْنحكم دون إقامة دولة، ولْنسيطر دون رسم خريطة، ولْنستخدم المجموعات المحلية والوكلاء للحفاظ في السيطرة على المنطقة”، وقد تمّ تقديم هذا الأمر كإيجاد حل مؤقت، فعندما يتحقق الاستقرار، سيتم الانتقال إلى تخطيط “سنقوم بتأسيس نظام شرق أوسطي جديد”.

مع مرور الوقت، اتضح أن نموذج السيطرة المرن واللامركزي والمُقسّم إلى أجزاء كان في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل، فلم يكن من المرغوب تحمل الكثير من المسؤولية، حيث لم يعترف النموذج بسيادة أي دولة أو حدودها، وكانت جميع السلطات المحلية خاضعة لسيطرة الدول المتعاونة، فإذا لم تنجح مجموعة ما، أصبح من السهل الانتقال إلى مجموعة أخرى قيد التطور، وكانت السيطرة تُدار من قِبل قوات بالوكالة دون إرسال جيش أو إنفاق أموال، وبالتالي تطورت عملية اتّسمت بانتهاكات كثيرة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، فهي لم تعترف بالخريطة القديمة، وفي نفس الوقت لم تطوِّر الخريطة الجديدة، لهذا السبب لم يعد هذا النموذج مؤقتاً، بل تمّ العمل لجعله جوهر النظام الجديد، والآن تقول مراكز الأبحاث بصريح العبارة أن الهدف ليس “الاستقرار القائم على الحدود والخرائط، بل الفوضى القابلة للإدارة ونظام المناطق الوظيفي”.

لجعل هذه الاستراتيجية دائمة الاستمرارية، أُنشِئَت مظلة أمنية جديدة مع إسرائيل واتفاقية إبراهيم، حيث ترتبط خطوط أنابيب الغاز الطبيعي وطرق التجارة بالمناطق الأمنية، فعلى الرغم من ضعف الوسط، إلا أن الجهات الفاعلة المتوافقة آخذة في التطور، ويتم تطبيق استراتيجيات تطبيع جديدة من خلال منح المجتمعات الغير حكومية، والجميع، تعويداً وآمالاً أيديولوجية-سياسية، شريطة أن يظلوا صادقين ومخلصين ومؤيدين لوظائفهم.

في نهاية المطاف، بدأ هذا النظام كـ “حل مؤقت للأزمة”، ولكن يتم الآن محاولة تحويله إلى “نظام جديد دائم”.

من الممكن بالطبع تلخيص تطور هذه العملية تدريجياً خطوة بخطوة على مدار السنوات الخمسة عشر الماضية، وإيضاح لِمَنْ تمّ منح الدور وكيف تمّ ذلك، لذا يجب أن تكون عمليةً يُتاح فيها للجميع رؤية كيفية تطبيق هذه الاستراتيجية وفقاً لاحتياجاتهم، ولكن من الممكن لنا أن نجري تقييماً لهذه العملية الاستراتيجية في شكلها القائم، ومن ثم يمكننا تقييم مسار التطورات وموقف تركيا، وربما في مقال آخر سيتم إجراء تقييم لهذا الوضع فيما يتعلق بالنهج الاستراتيجي للكرد.

الهيكل الأكثر لفتاً للانتباه في هذه العملية هو إسرائيل بطبيعة الحال، ففي الماضي، كانت في وضع مُتاح لها الأمان، ومُحاطة بالحماية، أما اليوم، فهي في وضعٍ هيمني تقوم بتحويل محيطها، وتُوجِّه أنظمة الخليج، وتُسيطِر على الممرات الاقتصادية، وتضع أمنها في المركز، وتقود عملية الدمج العسكري والتكنولوجي، وبالتالي تُعدّ إسرائيل الأكثر استعداداً لهذه العملية، إذ تُنشِئ حولها نظاماً من الأنظمة المنسجمة والجهات الفاعلة الضعيفة.

أصبحت إسرائيل طرفاً فاعلاً لتعزيز الأحزمة في مواجهة إيران، وهذا يُظهِر أن الهيمنة الحقيقية على المنطقة لم تعد بيد الغرب بشكل مباشر، بل أصبح الغرب هو القوة المركزية المهيمنة في المنطقة، حيث أن تطبيع إسرائيل مع العالم العربي هو في الواقع خطةُ تحولِ هيمنةٍ جديدة، تُنفَّذ لتغيير مسار الصراع بدلاً من خنقهِ، ولم تعد فلسطين في المركز، بل على الهامش، بينما يتمّ عزل المحور الإيراني من خلال هذا الحصار العسكري والدبلوماسي والاقتصادي، وإنْ أمكن خنقهُ من خلال تغيير النظام من الداخل.

إن إعادة ترتيب الدول الإقليمية تؤكد هذا أيضاً، فإيران آخذة في التراجع، لكن اختبار مدى قدرتها على المقاومة قد بدأ بالفعل. روسيا حاضرة لكنها غير مؤثرة، ودول الخليج آخذة في الصعود، لكن هذا الصعود لا يأتي من داخلها، بل من خلال اندماجها مع إسرائيل، ولم تعد دول مثل لبنان والأردن ومصر صانعة قرار، بل أصبحت دولاً تُتَّخَذ القرارات بشأنها، كما تُصمِّم الولايات المتحدة هذه الصورة بنموذج جديد لـ “الفوضى المُسيطَر عليها”، ولم يعد الأمر يتعلق بالسيادة الثابتة، بل بعصر التوجيه والإدارات المتعددة الجوانب، ولم تعد المساحات الضيقة هي الأهم بل المساحات الواسعة، وكذلك لم يعد الاهتمام مقتصراً على الجوانب العسكرية فحسب،  بل على الجوانب الوظيفية والأدوار الممنوحة لها، وبالتالي يتم الرغبة في إدارة نظام شرق أوسطي جديد من خلال نظام ضعيف ومجزَّأ ومنفتح على التداول العالمي ومنسق.

من الواضح أن موقف تركيا في هذا السياق موضع جدل، فهي ليست تماماً داخل دور الكتلة-المركزية الجديدة، ولا هي خارجها تماماً، فهي كقوة؛ كانت عالقة بين الجانبين لسنوات طويلة، حاولت وضع أجندة إقليمية خاصة بها، لكن هذه الأجندة كانت تتضمن تناقضات داخلها، فبعد الربيع العربي، اصطدمت بجدارٍ في كل ملف حاولت أن تؤسس فيه مبادرة، مثل ملفات (سوريا، مصر، ليبيا، فلسطين، شرق البحر الأبيض المتوسط)، والآن يُعدّ توجّهها مرة أخرى نحو خط الناتو NATO مؤشراً على فقدانها التوجه، ليس فقط جيوسياسياً، بل استراتيجياً أيضاً، إذ أن العلاقة التي تحافظ عليها تركيا بالوكالة مع هياكل مثل HTŞ-ÖSO (هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر) في الميدان لا تُنتج سيطرةً، بل تبعيةً، وهذه الاستراتيجية هي تناقضٌ يقع فيه نظامٌ غير قادر على وضع أجندته الخاصة به، مقابل تكلفة البقاء خارج عملية التصميم، لأن المعادلة الإقليمية لم تعد تُبنى فقط من خلال الدول الإقليمية والجهات الفاعلة-الغير حكومية، بل أيضاً من خلال توجيه وإدارة متعددة الجوانب تتجاوز حدود-الدولة.

وفقاً لاستراتيجية إسرائيل والولايات المتحدة الجديدة للشرق الأوسط، فهي تصميمٌ ذو قوة مركزية ضعيفة، تابعة للخارج، مجزأة، يُقبل وجودها وفقاً للدور المحدد والوظيفة المحددة، فلا ينبع هذا التشرذم بشكل مباشر من الحاجة إلى الأمن، بل من الحاجة إلى إنشاء منطقة هيمنة إقليمية وإنشاء مناطق سيطرة طويلة الأمد، وهذا لا يقتصر على العمليات العسكرية والسياسية فحسب، بل يشمل أيضاً جبهةً واسعة، تشمل ممرات الطاقة، خطوط الصدع الدينية والطائفية، الشبكات الرقمية، بما في ذلك الشتات.

في ظل هذه المعادلة الاستراتيجية، تحتل تركيا موقعاً مختلفاً وحرجاً، لأن تركيا دولة لا تزال تتمتع بدولة مركزية قوية، تظهر وجودها العسكري في الميدان، تستطيع تحريك الشعب سياسياً ودينياً، تجد صدى جزئياً في العالم العربي، تدخل في منافسة صراع ممرات الطاقة، ولا تستطيع استيعاب وضعها الجديد، وهذا الوضع يُمثّل موقفاً متناقضاً للولايات المتحدة-إسرائيل وفقاً للخريطة الاستراتيجية الجديدة، ولهذا السبب؛ إن الاستراتيجية تجاه تركيا هي جعلها فعّالة وتابعة، بدلاً من تدميرها بشكل مباشر، وإن سعي تركيا للهيمنة يُبقيها على خط الدولة المركزي في الوقت الراهن، وهذا يتعارض مع الخطة الأمريكية-الإسرائيلية لتفكيك المنطقة وإضعافها وجعلها تابعة من حيث الدور-الوظيفة.

في هذه المرحلة، من الضروري طرح السؤال الاستراتيجي التالي: أين تريد الولايات المتحدة وإسرائيل وضع تركيا، وما هي ركائز هذه الخطة؟ في الواقع يتم تشجيع تركيا على التبعية من خلال تلبية احتياجاتها كالخدمات اللوجستية، والطاقة، ونقل المعلومات الاستخباراتية، والقواعد العسكرية، والطرق الاقتصادية، وإضعاف قوتها باستخدام وكلاء لها في سوريا وليبيا وأماكن أخرى، والتصرف وفقاً لوظيفتها، والتلاعب بالديناميكيات الداخلية من خلال ترك القضية الكردية دون إيجاد حل لها من الداخل، وخلق الأزمات باستمرار، مما يُسهّل اعتمادها على الخارج وذلك عبر إضعاف قدرتها، وتعميق اعتمادها على النظام المالي الدولي من خلال الاقتصاد وتحفيز التخبط المستمر في السياسة الخارجية.

كنتيجة لذلك، تركيا حالياً في قلب صراع السيطرة، فمن جهة، هي دولة يُراد منها أن تكون فعالة، لكنها لا تقبل دورها ووظيفتها وتعمل على تقويض الأمور وإفساد اللعبة، ومن جهة أخرى، ترفض تركيا هذا الوضع رفضاً قاطعاً ولديها خطة هيمنة إقليمية تريد تحويلها وفقاً لما يناسب مصالحها، فالمسألة متعددة الأوجه وهيكلية؛ إما أن تنكسر تركيا وتستسلم أو تُنشِئ تحالفاً جديداً قائماً على المساواة بين الشعوب بطرقٍ أخرى، وإما أن تتجاوز هذا الوضع بديناميكيةٍ جديدةٍ من الداخل، فلهذا السبب، تقف تركيا على عتبةٍ تاريخية.

حقي تكين