المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

تقييمات القائد عبد الله أوجلان بصدد المؤامرة الدولية– 2

40

ارتبطت خيوط المؤامرة الدولية التي أدت إلى خروج القائد عبد الله أوجلان من سوريا، بشبكة غلاديو التابعة لحلف الناتو، التي صعّدت، بدعم من إسرائيل وأمريكا، الحرب ضد الكرد. وأدى التنافس داخل الجيش التركي بين فريقين، أحدهما مؤيد للحوار والآخر مؤيد للحرب، إلى تغليب مصالح الفريق المناصر للحرب والإبادة. هذه المؤامرة، التي شاركت فيها قوى إقليمية ودولية، هدفت إلى إنهاء دور القائد والقضية الكردية عبر عزلته وتسليمه لتركيا.

في الجزء الثاني من تحليلات القائد عبد الله أوجلان عن المؤامرة الدولية التي استهدفته في 9 تشرين الأول عام 1998، وانتهت باعتقاله يوم 15 شباط عام 1999، يتحدث القائد عن خيوطها وخروجه من سوريا والذهنية السياسية والفلسفية التي استهدفته.

خيوط المؤامرة الدولية

يقول القائد في مرافعته المعنونة بـ “مانيفستو الحضارة الديمقراطية -القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، وكذلك مرافعته المعنونة بـ “المدنية”، ما يلي:

إنّ خروجَي من سوريا مرتبطٌ بالتمشيطِ الذي أجرَته شبكةُ غلاديو التابعةُ للناتو. لذا، لا يمكننا أنْ نَصوغَ شرحاً صحيحاً لهذا التمشيط، ما لَم نأخذ الغلاديو والانشقاقَ الحاصلَ في الجيشِ التركيِّ على محملِ الدقة. فرئيسا هيئة الأركان العامة “إسماعيل حقي قره دايي وحسين كفرك أوغلو” لَم يكونا متحكمين بزمامِ كلِ شيءٍ بالدرجةِ المُعتَقَدة. أثناء رئاستيهما، فكِلاهما كان أقربَ في فكرِهما إلى مقاربة أشرف البدليسيِّ من القضيةِ الكردية. ولَم يَكُونا يَجِدان من الصائبِ أو الممكنِ توجيهَ الحربِ إلى اجتثاثِ الكردِ من الجذور. أما وجهةُ نظرِهما إلى الحلِّ السلميِّ والسياسيِّ الذي تطلعَ كلٌّ من تورغوت أوزال وأشرف البدليسيّ إلى البدءِ به، فكانا يَعتَبِرانه من دواعي الروحِ الوطنيةِ من جهة، وأكثر تناغماً مع مفهومِ الحربِ التقليديةِ من الجهةِ الأخرى. هذا وكان ساقب صبانجي أيضاً ممثلاً عن الفريقِ الذي يدافعُ عن هذا النهجِ داخل “جمعية الصُّنّاع ورجال الأعمال الأتراك TÜSİAD. كما كان موقفُ كلٍّ من محمد أيمور، رئيس دائرة الكونتر كريلا في “منظمةِ الاستخباراتِ الوطنية”، وحنفي آفجي من دائرةِ الأمنِ أيضاً يتماشى مع نفسِ النهج. وكانت هذه المجموعة قد شرعت بانتهازِ حادثةِ سوسورلك، لشنِّ حملةٍ ضد فريقِ الحربِ النافذ. في حين كان “دوغان غوريش” و “جفيك بير” يمثلان أساساً الفريق المضاد أو جناح الغلاديو.

وقبلَ خروجِي من سوريا، كان التنافسُ بين هذَين الفريقَين قد طفا على السطحِ ثانيةً. هكذا، انتهى التنافسُ بين الموالين والمعارضين بشأنِ الحوارِ معنا، بشأن الحوار لصالحِ جناحِ غلاديو الناتو، أي لصالحِ الفريقِ المُناصرِ للحربِ والإبادة، وبدعمٍ من إسرائيل وأمريكا. وعشيةَ الخروج، أصرت الاستخباراتُ الإسرائيليةُ على الإيماءِ بنحوٍ غيرِ مباشرٍ بضرورةِ خروجي من سوريا. لَم أَكُنْ أرى ذلك مناسباً، تجنباً لتَكَبُّدِنا خسائر فادحة في سوريا. كما لَم أَكُنْ أصادقُ على ذلك استراتيجياً وأيديولوجياً. لكنّ الحربَ كانت ستسيرُ في مجراها الطبيعيّ، وكنا سنعيشُ ما خبّأَه لنا القدَر. لَم أَكُنْ قَدَرياً. إلا إنّ تغييرَ المسارِ والتخلي على حينِ غرّةٍ عن النهجِ الأيديولوجيِّ والسياسيِّ والعسكريِّ السائدِ قُرابةَ ثلاثةِ عقودٍ، ما كان لِيَكُونَ عصياناً ذا معنى على القدرِ المحتوم. كان يتعينُ الالتزامُ بالصدق، وما كان لي أن أعمل أساساً لإنقاذِ نفسي. وبعد الإنذارِ الأخيرِ الذي أطلقَه أتيللا أتيش باسمِ غلاديو الناتو، لَم يَكُنْ بإمكانِنا تصعيدُ الحربِ إلا في حالِ مساندةِ سوريا وروسيا لنا بثَبات. ولكن، لَم يُؤَمَّنْ هكذا دعمٌ أو مساندة، فإنّ لم يكن لكِلا البلدَين القدرة ولا حتى النية على تحمّل وجودي شخصياً على أراضيهما. لقد كان هذا مستحيلاً فعلاً بالنسبةِ إلى سوريا. إذ كان من الواردِ أنْ تُحتَلَّ بين ليلةٍ وضحاها، من طرفِ الجيشَين التركيِّ شمالاً والإسرائيليِّ جنوباً. ولو أنهم يهتاجوا أو يتوتروا، لكان بوسعهم خلق إمكانياتِ تَموقُعٍ أفضل بالنسبةِ لي. إلا إنهم لَم يستطيعوا المُجازفةَ في ذلك. أما موقفُ روسيا، فكان أكثر ذُليلاً. حيث أرغمَتني على الخروجِ من موسكو، مقابل مشروعِ التيارِ الأزرقِ وقرضٍ من صندوقِ النقدِ الدوليِّ مقدارُه عشرةُ ملياراتٍ من الدولارات.

ثمة طريقان أمامي أثناء الخروج

كان ثمة طريقان أمامي أثناء الخروج: أولُهما كان طريقَ الجبل، والثاني كان طريقَ أوروبا. اختيارُ طريقِ الجبلِ كان يعني تصعيدَ الحرب، بينما ترجيحُ طريقِ أوروبا يعني البحثَ عن فرصةِ الحلِّ الدبلوماسيِّ والسياسيّ. معروفٌ أنّ الاستعداداتِ لشقِّ طريقِ الجبلِ كانت قد جرت قبل ذلك بأيام. وكانت كفةُ الاحتمالِ تَرجحُ في هذه الوِجهة. إلا أنّ مجيءَ هيئةٍ يونانيةٍ إلينا في تلك الأوقاتِ بالضبط، والاتصالاتِ الهاتفيةَ الكثيفةَ التي أجرَتها ممثلتُنا في أثينا آيفر كايا حينذاك (مع أشخاصٍ يُعتَبَرون مسؤولين رفيعي المستوى)؛ قد آلَ إلى تغييرِ مسارِنا نحو أثينا. كانت مشكلةُ المسؤولين السوريين تتجسدُ في أنْ أخرجَ بأقصى سرعةٍ من هناك. إلا أنهم لَم يَبدوا مرتاحين كثيراً لانطلاقي نحو أوروبا. وعدمُ إيجادِهم البديلَ في هذا المضمار، إنما هو مَأخَذٌ جادٌّ مُسَجَّلٌ عليهم. في واقعِ الأمر، لَم يَكُنْ الانطلاقُ نحو أثينا في الحُسبان. بل كانت فرصةً سانحةً لَم أتجنَّبْ الاستفادةَ منها، إيماناً مني بجديةِ أصدقائِنا هناك. ولو كنتُ أعرفُ أنهم كما قابَلتُهم على أرضِ الواقع، لَما انطلقتُ إلى هناك إطلاقاً. لكنّ السؤالَ الذي يجب طرحُه هنا هو: تُرى هل شعبةُ شبكةِ الغلاديو – التي من المعلومِ أنها شديدةُ المناعةِ في اليونانِ أيضاً – هي التي لعبَت دورَها في سيناريو الخروجِ ذاك؟ لا أستطيعُ صياغةَ جوابٍ حاسمٍ على ذلك. بل يتعينُ البحثُ في هذا الموضوع. وما يندرجُ في لائحةِ الاحتمالاتِ الواردةِ بشأنِ تسليمي إلى تركيا، هو اتفاقَ أمريكا مع الإدارةِ التركيةِ من حيث المبدأ على حلِّ مشاكلِها مع اليونان، أو أنها اقتَطَعَت منها عهداً بذلك. وترجحُ كفةُ احتمالِ إعرابِ أمريكا عن نواياها في هذا السياق، ضمن إطارِ حلِّ مشكلةِ إيجه وقبرص بشكلٍ خاص. وعليه، ينبغي الأخذُ في الحُسبانِ دون بُدّ، أنّ تركيا قد سلكَت موقفاً تنازلياً بلا حدود في هذا المضمار.

التقط المسؤولون السوريون أنفاسهم بعدما حطت بي الطائرة في يوم التاسعِ من شهرِ تشرين الأول. وقف كالندريديس أمامي عندما هبطتُ في مطارِ أثينا. كان كالندريديس قد مكثَ طويلاً في تركيا أيضاً كضابط مسؤول في الناتو. وقام بالمهمة نفسها في السويد أيضاً، لذا ربما هو تابعٌ لغلاديو اليونان. كان يتظاهرُ بالصداقةِ إلى أبعدِ مدى. كان ثمة مراسلٌ غريبُ الأطوارِ وسيطٌ بيننا، سَرَّبَ إليَّ بعضَ وثائقِ الناتو. قد يَكُونُ فعلَ ذلك لزرعِ الثقة. وهو مَن أخذني في المطارِ نفسِه إلى الضابطِ الجويِّ ورئيسِ المخابراتِ ستافراكاكيس، الذي كان ينتظرني في غرفةٍ هناك، فقال لي بغطرسةٍ وعنادٍ لا يَحتَمِلُ الجدل، أنني لن أستطيعَ دخولَ اليونان، ولو مؤقتاً. لَم يَظهرْ الأصدقاءُ الذين تواعدنا معهم إلى الوسطِ هناك. وتراشَقنا الكلامَ حتى المساء. وبمحضِ صدفة، دخلَ على الخطِّ وسيطُنا الذي في موسكو نومان أوجار وهكذا، غيَّرنا وِجهَتَنا إلى موسكو على متنِ طائرةٍ يونانيةٍ خاصة. وبمساعدة رئيسِ “الحزب الديمقراطيِّ الليبراليّ” جيرينوسكي، تمَكَّنّا من الهبوطِ في موسكو ودخول روسيا التي كانت تعاني الفوضى الاقتصاديةَ في تلك الأيام، لكنّ رئيسَ المخابراتِ الداخليةِ الروسيةِ وقف أمامنا هذه المرة. وهو أيضاً كان متعجرفاً وعنيداً. لذا، ما كان بوسعِنا البقاءُ في تلك الظروف. فمكثتُ نحو ثلاثةً وثلاثين يوماً بشكلٍ قِيلَ إنه سريّ. مَن نزلتُ عندهم واعتنَوا بي، كانوا ساسةً من أصولٍ يهودية. كنتُ مقتنعاً بصدقِهم. إذ كانوا يودون فعلاً إخفائي عن الأعين. لكن، ما كان لي أنْ أصادقَ على هذا الأسلوب. كان رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليّ أربيل شارون، ووزيرةُ الخارجيةِ الأمريكيةِ “مادلين أولبرايت” قد وَفَدا إلى روسيا خلال تلك الفترة. كان “بيريماكوف” رئيساً للوزراء في روسيا حينها.  وجميعُهم من أصلٍ يهوديّ. علاوةً على أنّ رئيسُ الوزراءِ التركيّ مسعود يلماز أيضاً كان في حراكٍ حينها وفي آخرِ المطاف، أَمَّنوا خروجي من روسيا، بعد الاتفاق على “مشروع التيار الأزرق” وقرضٍ ماليٍّ من صندوق النقد الدوليِّ قدرُه عشرة مليارات من الدولارات.

الذهنية السياسية والفلسفية للمؤامرة

كانت مذهلةً فترةُ الشهورِ الأربعةِ الممتدةِ من 9 تشرين الأول 1998 حتى 15 شباط 1999. وما كان لأيةِ قوةٍ في العالَمِ عدا أمريكا، أنْ تُرَتِّبَ لهذا التمشيطِ الممتدِّ أربعةَ أشهرٍ بأكملها في تلك المرحلة. أما دورُ قواتِ الحربِ الخاصةِ التركية حينذاك (رئيسُها كان الجنرال أنكين آلان) فكان محصوراً في نقلي إلى إمرالي على متنِ الطائرة تحت الإشراف، كانت فترةً شاهدةً على تنفيذِ أهمِّ التمشيطات التي عرفَها تاريخُ الناتو بالتأكيد. وقد كان هذا ساطعاً بجلاء، لدرجة أن أي شخص لم يقم بأي تصرفٍ شاذٍّ في أيِّ مكان حللنا فيه. ومن فعل ذلك شل تأثيره على الفور. فحتى روسيا الكبرى شل تأثيرها بجلاء فاقع. في حين أنّ موقفَ اليونانيين كان كافياً أساساً لإيضاحِ كلِّ شيء. كما أنّ الإجراءاتِ الأمنيةَ المُتَّخَذةَ داخلَ وخارجَ المنزلِ الذي أقمتُ فيه بروما، كانت تسردُ الوضعَ إلى حدٍّ كبير. لقد اتَّخذوا تدابير استثنائيةً بخصوصِ الأَسْر. ولَم يَسمحوا حتى بخطوِ خطوةٍ واحدةٍ إلى خارج المنزل. وكانت وحداتُ الأمنِ الخاصةُ تراقبُ كل مكان، بل وحتى باب غرفتي على مدارِ الساعةِ كانت حكومةُ داليما يساريةً ديمقراطية. وكان داليما قليلَ الخبرة، وعاجزاً عن اتخاذِ قرارٍ بمفردِه. لقد جاب أوروبا بأكملها. وبَيَّنَت إنكلترا له ضرورةَ اتخاذِه قرارَه الذاتيّ، ولَم تتعاونْ معه كثيراً. في حين كان موقفُ بروكسل غامضاً. وفي النتيجةِ أُحِلنا إلى القضاء. هذا وكان ممكناً عدمُ رؤيةِ تأثير الغلاديو في اتخاذِ هذا الموقف.

وبالأصل، فإيطاليا كانت واحدةً من البلدانِ التي يتمتعُ الغلاديو بالقوة الكبرى فيها. كان برلسكوني قد استنفرَ قواه كافة. وهو بذاتِه كان رجلَ الغلاديو. وعليه كنتُ مُرغَماً على الخروج، لأنني علمت بعدم قدرة إيطاليا على تحمّلي. بالطبع كانت تركيا قد صُيِّرَت مقابل ذلك واحدةً من أكثرِ البلدانِ التي تَثِقُ بها أمريكا وإسرائيل، بعدَما جعلتاها تَدورُ في فلكِهما. من هنا، فالسياقُ الذي يزعم أنه عولمة طائشة ما هو في واقعِ الأمرِ سوى حكايةُ تقديمِ تركيا هِبَةً للرأسماليةِ الماليةِ العالمية.