المبادرة السورية لحرية القائد عبدالله اوجلان

المرافعة الثالثة: سوسيولوجيا الحرية

47

الفصلان: العاشر والحادي عشر

1.المقدمة:

انصبّت جهود القائد و الفيلسوف عبدالله أوجلان في الفصل العاشر من المرافعة الثالثة ( سوسيولوجيا الحريّة ) ، كما كانت قد انصبّت من قبل في الفصل التاسع من المرافعة ذاتها ، على تحليل أزمة الرأسماليّة الممنهجة و فرص النفاذ منها ، في هذا السياق ، تقدّم البحث خطوة أبعد نحو استكشاف البدائل المحتملة عند انهيار الحداثة الرأسماليّة بوصفها حالة مرحليّة من نظام المدنيّة العالميّة .

تأمّل القائد عبدالله أوجلان في الكيفيّة التي يمكن من خلالها إنشاء الحداثة الديمقراطيّة ، و توقّف عند العراقيل التي تعترض طريقها ، كما سلّط الضوء على الفرص التي تقدّمها المرحلة الراهنة ، و على المهام التاريخيّة الملقاة على عاتق الجميع لإعادة هيكلة هذا المشروع الإنساني .

أما الفصل الحادي عشر ، فهو عبارة عن خلاصة و خاتمة فكريّة ، تُسكَبُ فيها زبدة التجربة المطروحة من زوايا مختلفة ، ليكون بمثابة مرآة تعكس خلاصة الرحلة الفكريّة التي نوقشت و عولجت في الفصول العشرة السابقة ، ففيه تتقاطع خطوط التاريخ و الفكر و المجتمع ، لتكشف عن جوهر المسألة الإنسانيّة ، بعيداً عن الحتميات الجامدة و الأوهام البشريّة ، فالتاريخ ، و كما يؤكد الفيلسوف و القائد عبدالله أوجلان ، لا يسير على خط قدريّ مستقيم ، و لا يتقدّم تلقائياً نحو الهدف المرتقب ، كما أنّه ليس منبع الرذائل بحدّ ذاته ، و لا واهب الفضائل عاجلاً أم آجلاً، بل إنّ مجتمعيّة الإنسان هي التي تجعل العيش الجميل أمراً ممكناً .

2 ـ مهام إعادة هيكلة الحداثة الديمقراطيّة :

1″ ـ المهام الفكريّة :

1″) ـ الأزمة الفكريّة و مأزق الحداثة في عصر ما بعد التنوير :

لم تُحدّد المهام الفكريّة على أنّها تكوين للوعي بقوالب جاهزة مسبقاً ، و أول عمل يجب القيام به هو تقييم ظاهرة الفكر ذاتها ، و كما يُقال ، بأنّ عصر التنوير هو الذي عيّن الحداثة ، لكنّ الإبادات الجسديّة و الثقافيّة التي لا حصر لها ، و المُنفَّذة بشكل ممنهج على يد الدولة القوميّة ، و على رأسها إبادة اليهود عرقيّاً ، قد ألحقت الضربة المميتة بمزاعم الحداثة في عصر ما بعد التنوير .

إنّ اللحظة التي قال فيها المفكّر أدورنو ( فيلسوف ألماني ) : ” بات على جميع الآلهة أن تلتزم الصمت ” ، كانت في الوقت ذاته المحطة الأخيرة التي بلغتها المدنيّات ، فالنزعة الفكريّة لا يمكن أن تجرّد نفسها من هذه اللحظة ، بل ينبغي محاكمتها باعتبارها أحد المتهمين الأوائل ، و يُعدّ تحميل المسؤوليّة على هتلر (زعيم ألمانيا النازية ، أشعل الحرب العالميّة الثانية) و أمثاله ، إحدى أشنع دعايات الليبراليّة ( الليبراليّة : فكر يركّز على الحريّة الفرديّة و حقوق الإنسان ) ، إذ  لا يمكن إيضاح الحقيقة ، ما لم يُسلّط الضوء على النظام الذي غذّى و أنشأ أمثال هتلر من المهد إلى اللحد .

ما دامت وظيفة النزعة الفكريّة ( النزعة الفكريّة : اتجاه أو ميل ذهني نحو فكرة معينة  ) في ” تقصّي الحقائق ” معّرضة للخيانة ، و مُرتكَبَة على يد المستثمرين و الحمّالين الفكريين ( الحمّالين الفكريين : أشخاص ينقلون أو يروّجون أفكار غيرهم ) ، فهذا مفاده أنّه ثمة أمور ينبغي إعادة النظر فيها من الجذور ، فمن دون إعادة النظر فيها جذريّاً في الميدان الفكري ، لن يتمخّض الوضع إلّا عن التحوّل إلى مستثمرين و حمّالين فكريين ، فإذا كان محالاً تأمين سيرورة النظام الذي يعاني من أزمة عالميّة إلّا بالإدارة الطارئة للأزمة ، فإنّ عدم الحديث عن الأزمة الفكريّة نابع من العمى ، أو من التحوّل إلى مستثمر و حمّال فكري عقيم للنظام .

الأزمة متعلقة أصلاّ بالعقم الموجود في الميدان الذهني ( الميدان الذهني : مجال التفكير أو النشاط العقلي و المعرفي ) ، و العلاقة بين بُنى النظام و ذهنياته كالعلاقة بين الجسد و الروح ، فأزمة الجسد بنيويّاً (أزمة الجسد بنيويّاً : اضطراب في فهم أو تنظيم علاقة الجسد ببنيته أو رمزيته ) تجعل الأزمة الذهنيّة في الصدارة ، و كما أنّ موت الدماغ برهان على موت الجسد ، فإنّ الأزمة الجسديّة دليل على الأزمة البنيويّة ، و ما يُعاش هو أزمة فكريّة عميقة ، و في بعض المجالات التي يستحيل فيها تذليل الأزمة بالتحديثات ، فإنّ الرد اللازم يقتضي الاهتمام بتحول النظام القائم ، أي أنّ حل أزمة النظام الفكريّة غير ممكن إلّا بإنجاز ” الثورة الفكريّة ” ( الثورة الفكريّة : تحوّل جذري في طريقة التفكير و المفاهيم السائدة ) .

2″) ـ الثورات الفكريّة الكبرى في مسيرة الحضارة الإنسانيّة :

إنّ أول ثورة فكريّة عظمى في التاريخ قد حصلت في ميزوبوتاميا بين أعوام ” 6000 ـ 4000 ق.م ” ، حيث رُصدت قدرات المجتمع و القوى الطبيعيّة بشكل شامل لأول مرة ، و استُخرجت منها النتائج العمليّة ذات التأثير البليغ .

اعتبر جوردون تشايلد (عالم آثار بريطاني ، و صاحب نظرية الثورة النيوليتية ) أنّ هذه الحقبة لا تُقارن إلّا بعهد أوروبا بعد القرن السادس عشر ( عهد أوروبا بعد القرن السادس عشر : تميّز بالنهضة العلميّة و الإصلاح الديني و نشوء الدول الحديثة و التقدم الصناعي ) ، إذ إنّ القسم الأكبر من المكاسب الاجتماعيّة في يومنا هذا يعود إلى تلك الحقبة .

شهدت الثورة الثانية الكبرى فترات تأسيس الحضارتين السومريّة و المصريّة ، إذ حوّلت مكتسبات الثورة النيوليتيّة ( الثورة النيوليتية : انتقال الإنسان من الصيد إلى الزراعة و تدجين الحيوانات و الاستقرار ) إلى نظام المدنيّة ذهنيّاً (نظام المدنيّة ذهنياً : تطور التفكير و القيم و المعرفة في المجتمع  ) و أداتيّاً ( نظام المدنيّة أداتيّاً : تطور الأدوات و التقنيات و البنية الماديّة للحضارة) ، و ظهرت فيها الكتابة و الرياضيات و الآداب و الطب و علم الفلك و اللاهوت و البيولوجيا ( البيولوجيا : علم الأحياء  ) .

ثم جاءت الثورة الفكريّة الإغريقيّة ـ الأيونيّة بين ” 600 ـ 300 ق.م ” لتكون الخطوة الثالثة العظمى ، و تميّزت بغنى فلسفي و علمي ، و بالعبور من الأديان الميثولوجيّة ( الأديان الميثولوجيّة : ديانات تقوم على الأساطير و تعدد الآلهة لتفسير الظواهر الطبيعيّة و الكونيّة ) إلى الفلسفة ، و بتطورات في الكتابة و الفن و السياسة و البيولوجيا و المنطق و الرياضيات و التاريخ و الفيزياء .

استمرّ التاريخ حتى القرن السادس عشر في نقل ثمار هذه الثورات و تكرارها ، رغم حدوث تطورات فكريّة أخرى لا ترقى إلى مستويات الثورات الكبرى .

يمكن اعتبار انطلاقات الأديان التوحيديّة ، و الثورة الزرادشتيّة الأخلاقيّة (الثورة الأخلاقيّة الزرادشتيّة : ثورة دعت إلى التمييز بين الخير و الشر و المسؤوليّة الأخلاقيّة للإنسان ) ، و قيم كونفوشيوس ( قيم كونفوشيوس : ركّزت على الأخلاق ، الاحترام ، الانسجام الاجتماعي ، و الواجب نحو الأسرة و الدولة ) ، و بوذا الفكريّة ( قيم بوذا الفكريّة : نادت بالسلام الداخلي ، التوازن ، التخلّص من الرغبات كمصدر للمعاناة ) ، و الومضات الفكريّة في الإسلام بين القرنين الثامن والثاني عشر (  الومضات الفكريّة في الإسلام خلال القرنين الثامن و الثاني عشر : كانت عبارة عن ازدهار علمي و فلسفي في مجالات الطب و الفلك و المنطق و الفكر العقلي ) ثورات ذهنيّة مهمة ، لكن عدم تحولها إلى ثورة كبرى خسارة فادحة .

كانت الثورة الأوربيّة الفكريّة ( الثورة الأوروبيّة الفكريّة : حركة فكريّة حررت العقل من سلطة الكنيسة ، و مهّدت للعلم الحديث ) جذريّة و شاملة  ، لكنّها انتهلت منابعها من الثورات السابقة ، و مع ذلك عرقلت احتكارات السلطة و الرأسمال تطورَها و زوّرتها ، إذ بذلت الأنظمة المطلقة ( الأنظمة المطلقة : أنظمة حكم يملك فيها الحاكم سلطة كاملة دون قيود دستوريّة أو فصل للسلطات ) و الدولة القوميّة جهوداً لحرفها .

خاض العلماء و المفكّرون مثل برونو ( فيلسوف يوناني ) و أراسموس ( مفكّر إنساني هولندي دعا للإصلاح الديني و العقلانيّة و التسامح ) و غاليلو ( عالم فلك إيطالي  ) و توماس مور ( مفكّر إنكليزي و صاحب كتاب يوتوبيا ) صراعات كبرى لحكاية استقلالهم الفكري و كرامتهم ، متحمّلين الظلم و محاكم التفتيش ( محاكم التفتيش : مؤسسات كنسية لمعاقبة من يُتهمون بالهرطقة أو مخالفة العقيدة ) و حتى الحرق في سبيل الفكر الحر .

3″) ـ أزمة الفكر تحت احتكار رأس المال و هيمنة الدولة القوميّة :

وجد رأس المال الاحتكاري وهيمنة الدولة القوميّة انعكاساً قويّاً في الميادين الفكريّة، حيث أُرفق العلم و الفلسفة و الفن و الدين بالسلطات ، و ألحق الاحتكارُ ضربةً كبرى بالاستقلاليّة الفكريّة ، فصار الفكر التابع فكراً للمستثمر ، و تحوّلت الجامعات إلى معابد جديدة يُغسل فيها دماغ الجيل الجديد ، ليصبح مواطناً عبداً لإله الدولة القوميّة ، بينما غدت مجموعات المدرّسين طبقة كهنوتيّة ( طبقة كهنوتية : فئة دينيّة تحتكر تفسير العقيدة و ممارسة الشعائر) جديدة باستثناء قلّة نادرة من المتنورين .

أما الثورة الفكريّة في أوروبا ، فرغم أنّ روادها تمثّلوا أديان و علوم و فلسفات و فنون العصور السابقة ، و قطعوا مسافات شاسعة في الدنو من الحقيقة ، إلّا أنّهم فشلوا في صون الطابع الأخلاقي و السياسي للمجتمع ، و شاركوا في الجرم كلّما زادت تبعيتهم لاحتكارات رأس المال و السلطة ، و هكذا بدأت الأزمة الفكريّة .

و لا ريب ، إنّ المفكّرين مسؤولون عن جعل المجتمع و البيئة هدفاً للإبادة و الزوال ، و أنّ الأزمة الفكريّة المشتركة تستوجب البحث في كيفية تطور سبل العلاج و مؤشرات الثورة و البراديغما ( البراديغما : نموذج أو نمط فكري ) العلميّة الجديدة .

4″) ـ تحوّل العلم من ملكٍ للمجتمع إلى أداة بيد السلطة عبر التاريخ :

إنّ العلم الذي جعل المدنيّة الأوروبيّة مركزاً له ، كانت أزمته بنيويّة ، لأنّ تمركّز العلم في المعبد كان يعني التحامه مع السلطة ، فقد كان العلم في المدنيّتين السومريّة و المصريّة جزءاً لا يتجزّأ من السلطة ، إذ أنّ مؤسسة الرهبنة ( مؤسسة الرهبنة : نظام ديني يقوم على الزهد و العزلة لعبادة الله ) التي لمّت شمل العلم كانت الشريك الأهم للسلطة .

بينما كانت بنية العلم في العهد النيوليتي مختلفة ، إذ إنّ معارف المرأة حول النبات و رصدها للفصول و القمر ، أسست خزينةً عظمى من المعرفة في مجتمع الزراعة ، لكن هذه المعارف جُمعت في عهد المدنيّة و صُيّرت جزءاً من السلطة ، مما أدّى إلى تحوّل نوعي سلبي .

لقد كانت المعرفة و العلم جزءاً من المجتمع الأخلاقي و السياسي في ما قبل المدنيّة ، و كان هدفهما تأمين سيرورة وجود المجتمع و حمايته و تغذيته ، غير أنّ المدنيّة غيّرت هذا الوضع جذريّاً ، إذ فصلته عن المجتمع و احتكرت المعرفة و العلم ، فتعزّزت السلطة و الدولة بهما ، و نتج عن ذلك الفصل الجذري للعلم عن المجتمع و المرأة و الحياة و البيئة ، كما تعاظمت المسافة بين الذكاءين التحليلي ( الذكاء التحليلي : القدرة على التفكير المنطقي و حل المشكلات ) و العاطفي ( الذكاء العاطفي : فهم المشاعر و ضبطها و التفاعل الإيجابي مع الآخرين ) .

كان معنى العلم في الطبيعة الاجتماعيّة ألوهيّاً ، لأنّه تعبير عن هويّة المجتمع ، لكنّ المدنيّة غيّرت هذا المعنى حين خضع العلم لنفوذ السلالة و شركائها ، فأصبحت الميثولوجيا و الدين ينصّان على أنّ السلالة و محيطها من نسب الإله ، و ظهر الملوك ـ الآلهة .

و من ثم استمرّ انقطاع أواصر منتجي العلم عن المجتمع ، و صاروا طبقة متقوقعة ( كاست ) ، حتى في المدنيّة الأوروبيّة ، حيث عاش منتجو المعرفة استقلالاً نسبيّاً محدوداً بسبب تنازع الكنيسة و الملكيّة و شبه استقلاليّة الأديرة ( شبه استقلاليّة الأديرة : تمتّع الأديرة بقدر من الحكم الذاتي عن السلطة الدينيّة أو السياسيّة ) ، مما أتاح ظهور النهضة و الإصلاح و التنوير .

غير أنّ صعود هيمنة الرأسماليّة و تكوّن الدولة القوميّة ، أدّيا إلى احتكار رأس المال و السلطة للعلم ، و هو وضع متنامٍ عبر تاريخ المدنيّة على حساب المجتمع الأخلاقي و السياسي ، و قد بلغ ذروته مع حداثة أوروبا ( حداثة أوروبا : مرحلة تجديد فكري و علمي قامت على العقل و العلم و التقدّم ) .

5″ ) ـ انفصال العلم عن الأخلاق و تحوّله إلى أداة بيد رأس المال و السلطة :

إنّ البراديغمائيّات العلميّة الأوروبيّة المركز ، كانت قد انقطعت عن المجتمع قبل زمن سحيق ، و غالباً ما كان المهتمون بالمعرفة و العلم يتخبطون في منظور رأس المال و السلطة ، و قد حُطّ من شأن المجتمع الأخلاقي و السياسي منذ وقت بعيد ، و تسارع هذا السياق مع هزيمة الكنيسة ، فلم يتبق أمام العلم همٌّ سوى الالتفاف حول أهداف رأس المال و الدولة .

بات العلم ينتج السلطة و رأس المال ، اللذين كانا ينسبان العلم إليهما بأفضل الأشكال ، و فتح قطعُ روابط العلم مع الأخلاق و السياسة البابَ أمام الحروب  و الاشتباكات و النزاعات ، و شتّى أنواع الاستغلال .

أضحى تاريخ المدنيّة الأوروبيّة شاهداً على أعتى الحروب ، و انحصر دور العلم في ابتكار أدوات الحرب المذهلة ، حتى وصل إلى ابتكار الأسلحة النووية ، بينما يستحيل اختراع مسدس ألعوبة في مجتمع أخلاقي و سياسي .

يعد الانهيار الأخلاقي من أهم عوامل بدء الحروب ، أما انقطاع العلاقة بين العلم و الأخلاق ، فهو أساس ابتكار الأدوات التدميريّة ، كما أنّ إقصاء المجتمع عن الأجندة ( الأجندة : خطة أو برنامج عمل ) يعني تشييئه ( تشييئه : تحويله إلى شيء مادي أو نزع إنسانيته ) ، و انتقل الفصل بين الذات و الموضوع إلى كافة العلوم ، فتحوّل التشييء إلى قاعدة علميّة ، و تحوّل مفهوم ” الطبيعة الحيّة ” إلى ” الطبيعة الشيء و الميتة ” و ” الإنسان الذات الإلهيّة المتحكمة بها ” .

كان تأثير هذه المقاربات البراديغمائية مدمّراً على العلم ، خصوصاً على العلوم الاجتماعيّة ( العلوم الاجتماعيّة : دراسة سلوك الإنسان و المجتمع و علاقاتهما ) ، إذ يؤمن الفيزيائيّون القائمون على ” الطبيعة الشيئيّة ” بأنّ كامل الحريّة في التحكم بالطبيعة ، و إجراء التجارب اللامحدودة عليها دون أي هاجس أخلاقي ، مما أفضى إلى صنع القنبلة الذريّة .

تحوّل العلم الإلهي ( اللاهوت ) إلى علم أدائي ( علم أدائي : معرفة تُمارس بالتطبيق العملي لا بالتنظير فقط ) لا أواصر له بالمجتمع ، بل أداة بيد السلطة و رأس المال ، و أضحت الفيزياء مظهراً للحياد و شكلاً من أشكال القوة الأساسيّة لهما ، و علاقات القوة المسماة بقوانين الفيزياء ليست إلّا انعكاساً لقوّة الإنسان ، و الإنسان مخلوق اجتماعيّ بالمعنى المطلق .

6″) ـ الوثنية الجديدة في الفلسفة الوضعيّة و علاقتها بالمدنيّة و العلم :

يمكن أن يُكشف عن الوجه الباطني للعلاقة بين المدنيّة ـ السلطة ـ العلم ، من خلال تحليل الفلسفة الوضعيّة التي تترك بصماتها على كل البنية العلميّة للحداثة ، فالفلسفة الوضعيّة ( الفلسفة الوضعيّة : فكر يربط المعرفة بالملاحظة و التجربة العلميّة فقط )  تنطلق من الظواهر الشيئيّة ( الظواهر الشيئيّة : دراسة الأشياء و الوقائع كما تُعطى في الواقع المادي ) الحاسمة و لا تعترف بأي تعاطٍ علمي آخر ، غير أنّ النظر عن كثب يُظهر أنّ هذا العلم الذي يعتبر دراسة علاقة المواد ببعضها البعض ، هو أكثر وثنيّة و ميتافيزيقيّة ( ميتافيزيقيّة : ما وراء الطبيعة ) من عبادة الأوثان و القوى الميتافيزيقيّة القديمة كافة .

فمن خلال الدياليكتيك التاريخي ( الدياليكتيك التاريخي : جدليّة تطور التاريخ عبر صراع القوى و التناقضات ) ، يمكن فهم كيف أنّ الأديان التوحيديّة ( الأديان التوحيديّة : اليهوديّة ، المسيحيّة ، الإسلاميّة ) و التجريديّة ( الأديان التجريديّة : ديانات تركّز على القيم الروحيّة و الفكريّة لا على التجسيد المادي للآلهة ) شكّلت نفسها على أساس انتقاد الوثنية ، و مع ذلك برزت الوضعية كحملة مضادة و كضرب من الوثنية الجديدة ، فنزعة الحقيقة المطلقة ( نزعة الحقيقة المطلقة : الإيمان بوجود حقيقة واحدة ثابتة لا تقبل الشك أو النسبيّة ) التي ترتكز إلى انتقاد الدين و الميتافيزيقيا ، قد تشكّلت كميتافيزيقيا محدثة تعتبر بدورها وثنية جديدة ، و يُعتبر فريدريك نيتشه (فيلسوف ألماني  ) أول الفلاسفة الذين شخّصوا هذه الحقيقة ، و أنّ تقييماته مساهمةٌ قيّمةٌ في بحوث الحقيقة .

لا بدّ من التنبيه إلى أنّ المصطلح المسمّى ب ” الظاهرة الموضوعيّة ” ( الظاهرة الموضوعيّة : حدث أو واقع يمكن ملاحظته و دراسته بعيداً عن التحيز الشخصي ) بعيد عن الحقيقة ، لأنّ الظواهر بحد ذاتها لا تقدّم أيّة معلومة قيّمة بشأن الحقيقة أو تسفر عن نتائج جد خاطئة بالتناسب مع ما قدّمته منها .

7″) ـ الوضعيّة و إنكار الحقيقة في تفسير الظواهر :

إنّ الظواهر التي لا تجد معناها ضمن الروابط المعقدة ، فهي حينها : إمّا لا تقدّم أيّة معلومة ، أو تفتح المجال أمام النتائج الأكثر خطأً ، و وفق الوضعيّة ، فإنّ الدولة القوميّة أيضاً ظاهرة ، و جميع ما يتكوّن منها من مؤسسات و بشر ظواهر ، و بجمع هذه العلاقات ، يتكوّن ما تعتبره الوضعيّة المصطلح العلمي و الحقيقة المطلقة ، أي حقيقة الدولة القوميّة .

الوضعيّة لا تعتبر هذا التعريف مجرد تفسير ، بل ظاهرة الحقيقة المطلقة ، و تنظر إلى جميع ظواهر علوم الاجتماع من المنظور نفسه ، فالمجتمع الظواهري هو مجتمع افتراضي ، و إنّ المجتمع الافتراضي هو الوجه الحقيقي للمجتمع الظواهري ، حتى يصبح حقيقته بحد ذاتها ، و تبلغ عدمية معنى الظواهر ذروتها مع المجتمع الافتراضي ، كما أنّ المجتمع الإعلامي ( المجتمع الإعلامي : مجتمع تتحكم فيه وسائل الإعلام في تشكيل الوعي و الثقافة و الرأي العام ) و الاستعراضي ( المجتمع الاستعراضي : مجتمع تهيمن فيه المظاهر و الصور و الإعلانات على الواقع و القيم الحقيقيّة ) و الجرائدي ( المجتمع الجرائدي : مجتمع تحكمه الطقوس و العادات الرمزيّة أكثر من القوانين و العقل ) يمثّلون حقيقة المفهوم الشيئي و الظواهري و الوضعية الظاهرة للعيان ، و هو ما يعني في النهاية إنكار الحقيقة .

8″) ـ الأزمة الحضاريّة بين ظاهر المصطلحات و حقيقة المجتمع الأخلاقي :

إنّ المجتمعين الإسلامي و الرأسمالي اصطلاحان من الاصطلاحات الظاهراتيّة ، و هي مصطلحات تلفيقيّة معنيّة بالظاهر ، و كذلك الحال في انتماءات الأمة الفرنسيّة و العربيّة و الكرديّة و التركيّة ، فهي حقائق ذات طابع وضعي و مظاهر ممسوخة ( مشوهة ) من الحقيقة .

إنّ المجتمع الأخلاقي و السياسي يُعد طبيعيّاً ضمن حقيقة المجتمع ، أمّا المدنيّة فهي تسعى دوماً إلى إفناء تلك الحقيقة ، و ما سواها من صفات و أسماء فتمثّل مظهرها و صياغتها البسيطة المتغيرة مراراً ، و ليس جوهرها .

أما حقيقة الأمة العربيّة مثلاً ، فالعروبة لا تعني شيئاً في بلاد العرب سوى حقيقة مجتمع ذي مزايا أخلاقيّة و سياسيّة ، و حقيقة السلطة التي بسطت نفوذها لآلاف السنين حتى بلغت به حافة التفسّخ في يومنا الراهن ، و وجود آلاف الحقائق المتناقضة ، لكن ّ الحقيقة العربيّة ينبغي ألّا تكون كذلك من حيث الجوهر .

و قد يكون مثال الأشجار أكثر بساطةً من سابقه ، فالأغصان و الأوراق حقائق ظاهريّة ، لكنّها ليست حقيقة قيمة ، إذ لكيلوغرام من العنب قيمة و معنى ، أما الورقة فمظهر شكليّ لا يعكس الجوهر .  

و يُعزى السبب الأساسي للأزمة العلميّة إلى غرق العلوم في الظاهرة ، مما أدّى إلى ولادة قاعدة جديدة يوميّاً ، و نظر كلّ قاعدة إلى نفسها كحقيقة تتميز بذات الشأن ، و هذه الأزمة مرتبطة بالنظام القائم و بانقسام الحقيقة إلى ثنائيّات متضادة مثل : الذات ـ الموضوع ، الدين ـ العلم ، الظالم ـ المظلوم ، الحاكم ـ المحكوم …إلخ ، و هي ثمرة ممارسة الإفناء و الاستعمار التي تمارسها شبكات المدنيّة الاحتكاريّة المتأسسة على المجتمع الأخلاقي و السياسي.

لقد بلغت الحداثة الرأسماليّة بالمجتمع إلى نقطة التبعثر و الانحلال الراهنة ، بسبب إكثارها و تعميقها اللامحدودين لثنائيّات المدنيّة ، و للعلم المتواطئ مع النظام نصيبه الوافر في ذلك ، و حين يصل التناقض بين المضمون الأيديولوجي و البنية الأداتيّة إلى حالة التنافر الحاد ، تصبح الأزمة حالة مدركة ، أي أنّها تتحول إلى صرخات مدويّة في بدن و روح التعدديات الساحقة ، عبر البطالة و الحرب و المجاعة و البؤس و القمع و اللامساواة و اللاحريّة .

9″) ـ المهام الفكريّة للحداثة الديمقراطيّة  :

أ ـ ينبغي تطوير الجهود الفكريّة و نشاطات المعرفة و العلم ضمن إطار المجتمع الأخلاقي و السياسي ، فواقع هذا المجتمع الممهور بالرأسمالية ، واقع مرير لأنّه يواجه التفسّخ و بات على شفير الفناء .

ب ـ على الجهود الفكريّة و نشاطات المعرفة و العلم أن تهدف إلى وقف هذا السياق أولاً ، لأنّ المجتمع الذي يعاني من الواقع المرير و لا يرغب الفناء كليّاً ، فهو مرغم على التصدّي و المقاومة للحداثة ذات الطابع الرأسمالي بكل عناصرها ، و على المثقف ـ وقتئذ ـ أن يكون مقاوماً في كلّ مساعيه ، و أن تكون عناصر بحوثه ذات أبعاد مقاوِمة ، و بهذا المعنى ، فإنّ المفكّر و العلم موضوعا مقاومة ، و أيّ شكل آخر ليس سوى خداع للذات .

ج ـ من الضروري ترتيب العلم ك “علم اجتماع ” بالدرجة الأولى ، و الاعتراف له بصفته الإلهة الأم لجميع العلوم ، بينما العلوم الأخرى المعنيّة بالطبيعة الأولى ( الفيزياء ، الكيمياء ..) و المعارف المعنيّة بالطبيعة الثانية ( الآداب ، الفلسفة .. ) لا يمكنها مطلقاً أن تتميز بمرتبة الريادة ( التفوق ) .

ح ـ على علم الاجتماع البحث أساساً في المجتمع الأخلاقي و السياسي كموضوع محوري ، و ليس كموضوع شيئي .

خ ـ لا يمكن تطوير براديغما قيّمة بشأن علم الاجتماع قبل رمي الوضعيّة في مزبلة التاريخ بناءً على النقد الشامل .

د ـ رغم أنّ بحوث الحقيقة المسماة بما وراء الحداثة تنتقد الوضعيّة و ترفض علم الاجتماع الأوروبي المحور ( علم الاجتماع الأوروبي المحور : هو علم اجتماع مبنيّ على رؤية أوروبيّة للعالم ، يفترض أنّ النماذج الاجتماعيّة الأوروبيّة كالحداثة و الدولة القوميّة هي الأساس الذي يمكن تطبيقه على كل المجتمعات) ، إلّا أنّه بالمستطاع لَبْرَلة ( لَبْرَلة : هي عمليّة تحرير الاقتصاد أ و المجتمع أو السياسة من القيود و التدخلات الحكوميّة أو السلطويّة ، و جعلها أكثر انفتاحاً و حريّةً ) هذه المقاربات و إكسابها شكلاً من المناهضة الأوروبيّة ( المناهضة الأوروبيّة : هي اتجاه فكري و ثقافي يسعى إلى نقد الهيمنة الأوروبيّة في مجالات الفكر و العلم و الثقافة ، و رفض النظر إلى أوروبا بوصفها المركز الوحيد للحضارة و التقدم ) التي هي أكثر مناهضة للحقيقة .

س ـ لا يمكن أن يكون الأسلوب شيئيّاً وضعيّاً ( الأسلوب الشيئي الوضعي : منهج يعتمد على الملاحظة و الموضوعيّة و الحقائق العلميّة ) أو ذاتيّاً نسبياً ( الأسلوب الذاتي النسبي : منهج يقوم على التجربة الشخصيّة و تعدد وجهات النظر ) لدى البحث عن الحقيقة ، فكلاهما وجهان لليبرالية (الليبراليّة : التحرريّة ، و هي فكر سياسي و اجتماعي يقوم على الحريّة الفرديّة و المساواة و حقوق الإنسان  ) مضموناً ، و يعبران عن تضخّم الأسلوب الذي تستخدمه الليبرالية في إنتاج رأس المال و الحمْل الفكري ( أو الجهد الذهني ) ، بعد خلط بعضهما ببعض ، ثم عرضهما في السوق ، و هذا التضخّم الأسلوبي هو الجانب الأكثر تأثيراً في تصيير الحقيقة مستحيلاً .

ص ـ لا يمكن أن تكون المؤسسات الرسميّة للمدنيّة و الحداثة ( و على رأسها الجامعات ) أماكن بحث أساسيّة ، ذلك أنّ سلطويّة العلم ( سلطويّة العلم : سيطرة العلم كمصدر وحيد للحقيقة و إقصاؤه لبقية أشكال المعرفة ) و إنتاجه في مؤسسات الدولة الرسميّة يعنيان فقدانه لروابطه مع الحقيقة ، سواء ماضياً أو حاضراً ، و انقطاع أواصر العلم مع المجتمع الأخلاقي و السياسي ، و إخراجه من كونه مفيداً للمجتمع يعني تصييره مساعِداً لتسليط احتكارات القمع و الاستغلال على المجتمع .

ط ـ إنّ الثورة المؤسساتيّة ( الثورة المؤسساتيّة : تحوّل جذري في تنظيم و إنتاج المعرفة داخل المؤسسات العلميّة ) ، و بمعنى آخر ، إعادة الهيكلة شرط ضروري لأجل علم الاجتماع ، و الطابع المؤسساتي ( الطابع المؤسساتي : خضوع العلم و التنظيم المعرفي لهياكل رسميّة كالجامعات و المراكز) هو أحد شروط نجاح هذه الثورة ، فلأجل نجاح الثورة الفكريّة عالميّاً ، فهي بحاجة لمركز مؤسساتي عالمي جديد على ضوء الدروس و العبر المستخلصة من التجارب التاريخيّة ، و بالمقدور إنشاء ” كونفدراليّة الثقافات و الأكاديميّات العالميّة ” ( كونفدراليّة الثقافات و الأكاديميّات العالميّة : شبكة تعاون و تكامل بين ثقافات و مؤسسات علميّة عالميّة ) لتلبية هذه الحاجة ، و لن تكون هذه الكونفدرالية التي ستُنشأ في بقعة حرة تابعةً لأيّة دولة قوميّة أو قوة سلطة ، و ينبغي تشكّلها على أساس مناهضة احتكارات رأس المال ، فالأساس هو استقلالها أو شبه استقلالها ، و بالمستطاع تمكين الانخراط فيها من جميع الثقافات المحليّة و الأكاديميّات الإقليميّة ـ الوطنيّة كلّما تمّ تكييف منهاجها و تنظيمها و ممارستها بناءً على الطوعيّة ، و بإمكان الكونفدراليّة أن تتوجه نحو مؤسسات مكلّفة بالمهام على الأصعدة المحليّة و المناطقيّة و القوميّة و القاريّة .

م ـ يمكن لأكاديميّات السياسة و الثقافة الديمقراطيّة أن تكون مؤسسات مناسبة لهذه المهمة ، إذ بمقدور هذه الأكاديميّات تقديم الدعم الفكري و العلمي اللازم لتلبية احتياجات إعادة بناء وحدات المجتمع الأخلاقي و السياسي ، فبناؤها كانطلاقات أصيلة أنسب من أن تتخذ المؤسسات الاحتكاريّة الرسميّة و الخاصة قدوة لها ، و أن تنصّ على كونها ديمقراطيّة و شبه مستقلة ، و أن تشكّل منهاجها و تُنشئ كوادرها بنفسها ، و تعتمد التعلم و التعليم الطوعيين .

إنّ المشاركة العلميّة و الفكريّة تعد شرطاً أساسيّاً لإعادة هيكلة وحدات الحداثة الديمقراطيّة ، و لا يمكن تحقيق ذلك بالاعتماد على رأس المال الفكري القائم ، بل يتطلب كادراً علميّاً نابعاً من الأكاديميّات الجديدة .    

2″ ـ المهام الأخلاقيّة :

 1″) ـ الأخلاق هي الأساس الأصيل للمجتمع و الديمقراطيّة :

تتصدر الأخلاق لائحة المؤسسات الاجتماعيّة التي يسود العجز عن تحليلها ، رغم كثرة الحديث عنها ، إذ أنّ المنجزات العمليّة المعاصرة تُحدث خيبة أمل كبيرة ، رغم جهود التنظير باسم علم الأخلاقيّات ( علم الأخلاقيّات : دراسة المبادئ التي تميز الخير من الشر و توجّه السلوك الإنساني ) ، و الكيان الاجتماعي يفتقر تدريجيّاً للأخلاق ، و لم توُضّح أسباب هذا الافتقار و نتائجه كفاية ، فتمّ إقحام الأخلاق في حالة من الإهمال رغم عظمتها و أهميتها ، إذ إنّ الأزمات التاريخيّة و العالميّة ثمرة التجرد من الأخلاقيّات ، و كأنّ الضمير المجتمعي يعاقب اللاأخلاق فيما يسمى بلعنة الآلهة .

الأخلاق اصطلاحاً ، معرفة كيفيّة العيش وفق الأعراف و العادات ، و لكن ، هذا التعريف شكلي ، فالفلاسفة كأفلاطون ( فيلسوف يوناني مثالي ) و أرسطو ( تلميذ أفلاطون ) و كانط ( فيلسوف ألماني عقلاني ) جعلوا الأخلاق وسيلة لجعل الفرد أكثر نفعاً للدولة ، فكانت تفسيراتهم الأخلاقيّة موالية للمدنيّة ، و اللجوء إلى التاريخ يُظهر أنّ القواعد الأخلاقيّة سادت بنحو 98./.من سياق العصور الاجتماعيّة ، لا القانون ، لذا فتفسير الأخلاق سيبقى ناقصاً ما لم يُدرك جيداً ما واجهته أخلاق تلك الحقبة الطويلة .

تُعرّف الطبيعة الاجتماعيّة بأنّها ” المشحونة غالباً بالذكاء المرن” ( المقصود بالمشحونة غالباً بالذكاء المرن : أي أنّها تعني الأخلاق القائمة على وعي عاطفي و فكري متكيّف مع المواقف ) ، و العلاقة بين العمل و التفكير تستلزم القواعد حكماً ، و تحديد كيفيّة إنجاز العمل يعني تحديد القاعدة ، و هي أول قاعدة أخلاقيّة ، فالفشل في ذلك يعني موت المجتمع.

و بناءً على ذلك ، فالمصطلحات التي تقسم المجتمع إلى بنية اقتصاديّة تحتيّة ، و بنية أخلاقيّة فوقيّة مجرد هراء ، لأنّ الأخلاق هي السبيل الأفضل لتأمين الاقتصاد ، إذ كل ما هو مجتمعي هو أخلاقي ، و العكس صحيح ، فالاقتصاد أخلاقي ، و الدين أيضاً أخلاقي ، و السياسة باعتبارها الديمقراطيّة المباشرة هي الأخلاق بعينها .

و هكذا ، فإنّ القاعدة الأولى للأخلاق هي” تحديد كيفيّة الإنجاز الأفضل للعمل ” ، لتترسّخ هذه القاعدة في الذاكرة المجتمعيّة ك ” تقاليد سليمة ” ، فينشأ منها ما يُسمّى بالأعراف و التقاليد ، و الأخلاق ممارسة ذهنيّة و مجتمعيّة في آن واحد ، و هي ” الحالة الأولى الأصيلة للديمقراطيّة ” ( الديمقراطيّة : نظام يضمن مشاركة الجميع في صنع القرار على أساس المساواة و الحريّة ) ، حيث تتكافأ الأخلاق الأصيلة و الديمقراطيّة الأصيلة ، فمنبع الأخلاق و الديمقراطيّة واحد ، و هو ” قدرات الممارسة الاجتماعيّة في الذهن الجمعي و قابلية القيام بالعمل ” ( المقصود ب ” قدرات الممارسة الاجتماعيّة في الذهن الجمعي و قابليّة القيام بالعمل ” :  وعي جماعي يمكّن المجتمع من التنسيق و الفعل المشترك نحو أهداف مشتركة ) .

إنّ استمرار الحياة من دون الأخلاق مستحيل ، فالقانون مجرد غطاء ، أما القوة المسيّرة للعمل أساساً فهي الأخلاق .

2″) ـ صراع الأخلاق و القانون في مسار المدنيّة :

عند التمعّن في سياق المدنيّة ، يتضح أنّ هناك محاولات دائمة تهدف إلى سريان معايير الدولة على حساب الأخلاق ، فالقضية ليست عدم كفاية الأخلاق ، بل هي تهشيم و تعرية المجتمع الأخلاقي ، إذ بدأت احتكارات رأس المال و السلطة المضاعفة تتأسس على المجتمع ، و أصبحت القيم الاجتماعيّة المنتجة تُنهب و تُسلب .

و مع بدء تطبيق قواعد حكم الدولة ، أخذت مساحة الأخلاق ، و بالتالي مساحة الديمقراطيّة المباشرة ، تضيق تدريجيّاً ، بينما تتسع مساحة حكم و قانون الدولة ، إذ يتم فرض الخسارات على الأخلاق بإرغام من الدولة .

و يستمر هذا التضييق في جميع مجتمعات المدنيّة اللاحقة ، حتى أصبح ما هو قائم أشبه باستعمار القانون ، فبينما تُحاصر مساحة الأخلاق في أقاصي الزوايا البعيدة ، أصبح القانون ضيفاً متربعاً في كل الزوايا الأساسيّة ، و ما تحقق في كل الحداثة هو تراكم رأس المال و تكاثر السلطة إلى الحد الأقصى ، أي التكديس التراكمي المتداخل لكليهما ، في حين أنّ ما جرى على صعيد الأخلاق ليس شلل فاعليتها ، بل انتزاعها من يد المجتمع .

إنّ الزعم بأنّ المجتمع المزداد تعقيداً يحتاج إلى القانون بسبب استحالة إدارته بالأخلاق ، هو رياء فظيع و حكم لا أخلاقي ، لأنّ ازدياد القواعد القانونيّة في مكان ما دليل على سيادة احتكار قمعي و استغلالي ، فالقانون هو تطبيق القواعد بقوة الدولة ، أما الأخلاق فلا إكراه فيها ، و من الواضح أنّ الغلبة ستكون للفاضل ، و أنّ كفة الأخلاق هي الراجحة بكل تأكيد .

3″) ـ العلاقة بين الدين و الأخلاق و تطورها عبر التاريخ :

تُعد علاقة الأخلاق بالدين قضيّة محوريّة ، فكما يمكن عقد مطابقة بين الأخلاق و الديمقراطيّة المباشرة في المجتمعات غير المدنيّة ، يمكن أيضاً إقامة تعادل مماثل بين الدين و الأخلاق ، فالأخلاق مؤسسة أسبق من الدين ، غير أنّ الدين يعني غالباً بأبعاد الأخلاق المتعلقة بالمحظورات و المقدّسات و السحر ، الناتجة عن شعور الإنسان بالعجز أمام قوى الطبيعة ، و من هذا الإحساس بالخوف و الرحمة تنشأ التقاليد و المؤسسة الدينيّة البدائيّة .

و الدين ، و إن كان أسبق من المدنيّة ، فإنّه يتضمن محظورات الأخلاق و عنصري الرحمة و الغفران ، لكنّه يتحول مع الزمن إلى شريعة أكثر صرامة ، فتنتظم الأخلاق ضمن قواعد مقدسة ، و يتحول الدين إلى مؤسسة مستقلة ذات قوانين ملزمة ، و ينشأ القانون بدوره من القواعد الأخلاقيّة ليصبح نظاماً يُنفّذ بالقوة ، مثلما تطوّر الدين ليغدو سلطة إلهيّة تُعاقب المجتمع وفق مصالح قوى الاستغلال و السلطة ، فيسير الدين و المدنيّة الحديثة معاً لخدمة الهيمنة الطبقيّة و السياسيّة .

و يمثّل هذا التحوّل لحظتين حاسمتين في التاريخ ، إذ لجأت السلطة و الملكيّة إلى إضفاء صفة إلهيّة على ذاتها لتبرير الهيمنة الأيديولوجيّة ، فكلما استُحضر مفهوم الإله ، انكشف تحته قوى الطغيان و الاستغلال و أجهزة الدولة القمعيّة ، و مع ذلك ، فإنّ تتبع العناصر الأخلاقيّة الأصليّة في الدين يكشف أيضاً عن وجهه الإنساني الديمقراطي ، إذ يتجلّى الدين في بعدين متقابلين : أحدهما مشحون بالخوف و العقاب و السيطرة ، و الآخر بالمغفرة و الأمل و الرحمة و السلام .

و من ثم ، فإنّ فهم الدين في هذين البعدين عبر تاريخ المدنيّة أمر ضروري ، و تُجسّد الأديان الإبراهيميّة هذا التداخل بوضوح ، فهي تحتوي التيارين معاً : فممثلوها في المستويات العليا يعكسون ميول المدنيّة و السلطة ، بينما يجسّد عامة المؤمنين ميول الحضارة الديمقراطيّة ، و هكذا ، تشبه الأديان الإبراهيميّة في بنيتها الديمقراطيين الاجتماعيين الذين يسعون إلى التوفيق بين قوى رأس المال و العمال ، إذ تمثّل هي بدورها التوازن بين قوى السلطة و الاستغلال ، و بين قوى الحضارة الديمقراطيّة عبر التاريخ .

4″) ـ الثورة الأخلاقيّة الزرادشتيّة في مواجهة الميثولوجيا :

تُعد الزرادشتيّة و تعاليم زرادشت استثناءً في علاقة الدين بالأخلاق تاريخيّاً ، إذ تُعرف في البحوث بأنّها الثورة الأخلاقيّة الكبرى ، و هي ثورة تنادي بالأخلاق الدنيويّة أكثر من القدسيّة ، في مواجهة هيمنة المدنيّة السومريّة الميثولوجيّة ( المدنيّة السومريّة الميثولوجيّة : نظام المعتقدات و الأساطير التي فسّرت بها حضارة سومر الظواهر الطبيعيّة و الآلهة ) و الدينيّة ( المدنيّة السومريّة الدينيّة : الممارسات و الطقوس الدينيّة المنظّمة في معابد سومر لعبادة آلهتها المتعددة ) ، التي نشأت في بيئة زراعيّة رعويّة على حواف جبال زاغروس ، و رغم تسميتها بالزرادشتيّة نسبةً إلى مؤسسها ، فإنّ جذورها تمتد إلى الماضي السحيق ، و قد حاكم زرادشت الألوهيّة الميثولوجيّة بعبارته الشهيرة : “قل من أنت؟” ، ما جعل من انتقاده الأخلاقي الأول للدين السومري حدثاً ذا أهميّة كبرى ، و ليس عبثاً أن يختار نيتشه ( فيلسوف ألماني ) عنوان ” هكذا تكلّم زرادشت ” لإنجازه الفلسفي ، إذ ملأه بالأحكام الأخلاقيّة الزرادشتيّة ، و اعتبر زرادشت رمزاً للتجدد الأخلاقي و الروحي.

تتجلّى في الزرادشتيّة عناصر الحضارة الديمقراطيّة ، حيث تقوم العلاقة بين المرأة و الرجل على المساواة ، و تُمنع إيذاء الحيوانات و أكل لحومها غالباً ، مع اعتماد الإنسان على منتجاتها ، و تُمنح الزراعة أهمية كبرى ، كما يظهر فيها مفهوم الفضيلة و الرذيلة المنفصل عن الألوهيّة ، و يتجلّى نمط التفكير الثنائي بين قوى النور و الظلام الذي يُذكّر ببذور الدياليكتيك ( الجدل ) ، و يقوم تنظيم المجتمع على أسس أخلاقيّة وطيدة .

من الواضح أنّ الزرادشتيّة تعكس ثورة أخلاقيّة قويّة تجاه المدنيّة السومريّة و المدنيّة المتحدّرة منها ، و كانت أعظم ثمار هذه الثورة الكونفدراليّة الميديّة ( الكونفدراليّة الميديّة : اتحاد قبائل الميديين كوحدة سياسيّة و عسكريّة ضد الآشوريين ) و الإمبراطوريّة الفارسيّة التي ورثت هذا الإرث الأخلاقي ، و رغم محاولة ماني ( مفكر و داعية أسس الديانة المانويّة التي جمعت بين عناصر من الزرادشتيّة و المسيحيّة و البوذيّة ، و دعت إلى صراع دائم بين النور و الظلام ، و الخير و الشر ) إنجاز ثورة أخلاقيّة ثانية ، فإنّ الأباطرة الساسانيين المنحلين ( الأباطرة الساسانيين المنحلين : الحكّام الساسانيون في أواخر دولتهم حين ضعفت سلطتهم و انحلت دولتهم قبل الفتح الإسلامي )  حالوا دون ذلك ، فتعرّض ماني للعقاب الشديد.

لا تزال آثار التقاليد الزرادشتيّة و المانيّة الأخلاقيّة ( المجوسيّة ـ الإيزيديّة ) منتشرة من الشرق الأوسط إلى الهند و أوروبا ، إذ إنّ كلمة “زنديق ” ذات أصول زرادشتيّة ، و من الضروري الإشارة إلى أنّ الأنبياء اليهود في عهد السبي البابلي ( عهد السبي البابلي الأزل : فترة سُبي فيها اليهود إلى بابل بعد تدمير نبوخذ نصر للقدس سنة 586 ق . م ) ، و الفلاسفة الإغريق ـ الإيونيين ( الإغريق ـ الإيونيين : أحد فروع الإغريق القدماء سكنوا سواحل آسيا الوسطى و أسهموا في تطور الفلسفة و العلوم ) في عهد الإمبراطوريّة الميديّة ـ الفارسيّة ، و كذلك المستشرقين الأوروبيين قد استقوا بشكل مباشر من التعاليم الزرادشتيّة .

كما أنّ كونفوشيوس ( فيلسوف صيني ) و سقراط و بوذا ( بوذا : مؤسس الديانة البوذيّة ، دعا إلى طريق التنوير و التخلص من المعاناة عبر التأمل و الزهد) الذين يُعتقد أنّهم عاصروا زرادشت ، قد أسسوا تعاليمهم على دعامة المجتمع الأخلاقي ، و يحتل هذا المجتمع الأخلاقي مكانة مهمة جداً في تعاليم الإسلام و المسيحيّة في العصور الوسطى ، غير أنّ الأخلاق في عهد المدنيّة الأوروبيّة تشهد نخراً ( أو : تدهوراً ، انحلالاً أخلاقيّاً ) جديداً .

5″) ـ المهام الأخلاقيّة للحداثة الديمقراطيّة في سياق إعادة الهيكلة :

أ ـ البحث عن النفاذ من الأزمة العالميّة للحداثة ضمن إطار إعادة هيكلة المجتمع الأخلاقي أمرٌ صحيح بحكم الدياليكتيك .

ب ـ على الرغم من كلّ مساعي التعرية و التفسيخ و الإفناء التي تسيّرها قوى المدنيّة و الحداثة بحقّ المجتمع الأخلاقي و السياسي ، إلّا إنّه لا يزال مستمراً بوجوده كطبيعة اجتماعيّة بنسبة ساحقة .

ج ـ ما يُحافظ أساساً على ثبات و ديمومة المجتمع ليس نظام قانون الدولة ، بل إنّه العنصر الأخلاقي ، و ما دام لم يُقضَ على المجتمع ، فلا يمكن القضاء على الأخلاق ، و لكي تُؤمّن المجتمعات سيرورتها ، لا بدَّ أن تؤدي الأخلاق دورها كنسيج و مؤسسة اجتماعيّة و أساسيّة .

ح ـ النشاطات الأخلاقيّة معنيّة بالميدان الفكري ، بينما نشاطات السياسة الديمقراطيّة معنيّة بالميدان السياسي ، و لكن لا يمكن أن تؤدّي دورها ما لم تتحد مع المجتمع الأخلاقي ، و هناك تكافؤ بين الدين و الأخلاق ضمن النطاق الديمقراطي ، لذلك يجب اعتبار أماكن العبادة مؤسسات أخلاقيّة عمليّة ، و يجب استخدامها لإنشاء المجتمع الأخلاقي ، و باعتبار الحداثة الديمقراطيّة تشكّل مجموع مؤسسات أخلاقيّة تُعاد فيها هيكلة المجتمع الأخلاقي و السياسي ، فمن الضروري إصلاحها و إعادة ترتيبها من حيث المنهاج و التنظيم و نمط العمل إن دعت الحاجة . فلوحدات المجتمع الأخلاقي و السياسي حقّها في المقاومة المقدّسة و الأخلاقيّة إزاء إرغامات الدولة و السلطة ، و عليها اللجوء إلى حقّها هذا عند اللزوم ، فضلاً عن أنّ حريّة الدين و الأخلاق تقتضي ذلك .

خ ـ إنّ إرغامات النزعة العلمانيّة (النزعة العلمانيّة : هي فصل الدين عن شؤون الدولة و المجتمع ) ذات القناع العنصري ( القناع العنصري : هو تبرير أو تغطية التمييز العنصري بمظاهر مزيفة ) ، و إرغامات النزعات الدينيّة الجديدة الراديكاليّة ( النزعات الدينيّة الراديكاليّة : أي ضغوط الحركات الدينيّة المتطرفة الحديثة ) منها و المعتدلة ، التي تزعم أنّها انطلقت باسم الشريعة ، ليستا تيارين متضادين كما يُعتقد ، و لا يمكنهما أداء دور أخلاقي و سياسي ، كونهما اشتقاقاً أيديولوجيّاً توفيقيّاً من الليبراليّة ( اشتقاق أيديولوجي توفيقي من الليبراليّة :أي ، فكر يجمع بين الحريّة الفكريّة و اتجاهات فكريّة أخرى لتحقيق توازن بينهما ) ، و لكي لا يتمّ الوقوع في هكذا مصائد ، فمن الضروري سلوك مقاربة تتمثّل المحتوى الديمقراطي في الدين و العناصر الدنيويّة الحرة نسبيّاً في العلمانيّة ، و لا يمكن لكلا العنصرين لعب دورهما إلّا ضمن إعادة هيكلة الحداثة الديمقراطيّة .

د ـ يجب عدم الانخداع بالإرهاب الذي ينشره القانون في المجتمع بإرغام من الدولة، فالأخلاق أساس و القانون ثانوي ، و سوف يُجلّ القانون طالما ظلَّ عادلاً .

ذ ـ إعادة تأسيس الهيئات الكاثوليكيّة اعتماداً على المفهوم الكوني للأخلاق كمؤسسة، و إعادة تأسيس مؤسسة الخلافة القديمة و مثيلاتها المُمثّلة للأمة الإسلاميّة تحت سقف واحد ، و تعمّقها على الممارسات و السلوكيّات الأخلاقيّة بدلاً من الثيولوجيا ( الثيولوجيا : هي دراسة العقائد الإلهيّة و الدينيّة) و اللاهوت ( اللاهوت : علم يبحث في طبيعة الله و العقائد الدينيّة و الإيمان ) ، كلّ ذلك سيؤدي دوراً عظيماً باسم البشريّة جمعاء في إعادة هيكلة المجتمع الأخلاقي و السياسي .

س ـ يجب على الحداثة الديمقراطيّة أن تتبنّى مهامها في الميدان الأخلاقي ، لتكون قادرة على صون و تأمين سيرورة وحدات المجتمع الديمقراطي حيال الهجمات التي تُسيّرها قوى المدنيّة و الحداثة ضدها بالأسلحة الأيديولوجيّة و الثقافيّة الماديّة الشاملة .

3″ ـ المهام السياسيّة :

1″) ـ السياسة و فن الحريّة :

السياسة كالأخلاق ، مفردة كثر الخلط و التعقيد بشأن اصطلاحها ، و معناها كمفردة بسيط و يعود في جذوره إلى اليونانيّة ، و هي تعني ” فن إدارة المدينة ” ، غير أنّ البحث عن الحقيقة عبر المفردات أسلوب ناقص للغاية ، و يتخلّى عن المرء في منتصف الطريق ، فالمصطلحات المعنيّة بالطبيعة الاجتماعيّة غامضة جداً ، إذ قد تشير إلى الحقيقة لكنّها لا تستطيع إنشاءها أو تشكيلها ، لذلك ينبغي البحث عن الحقيقة فيما وراء المصطلحات ، غير أنّ هذا العمل غير ممكن إلّا بفضلها مع الأسف ، و ما يتبقّى إذن هو قوة التفسير ، و تحديد المعنى الجوهريّ للسياسة بأنّها فن الحريّة قد يعبّر عن المرام على نحو أفضل ، أما الحريّة بحدّ ذاتها فتعني الدنو من الحقيقة ، و لا ريب أنّه لدى استخدام مصطلحات السياسة و الحريّة و الحقيقة ، فإنّ وحدة البحث الأساسيّة هي المجتمع الأخلاقي و السياسي مرة أخرى .

2″) ـ جوهر السياسة و تمييزها عن الدولة و السلطة :

إنّ شؤون الدولة ليست أعمالاً سياسيّة بل إداريّة ، إذ لا تُمارس السياسة اعتماداً على الدولة بل يُمارس الحكم ، كما أنّ الشؤون التي لا تُعنى بمصالح المجتمع الحياتيّة ليست سياسة أساسيّة ، بل أعمال روتينيّة تنفّذها المؤسسات الاجتماعيّة الأخرى ، و الشؤون التي لا علاقة لها بالحريّة والمساواة و الديمقراطيّة ليست معنيّة بالسياسة ، بل نقيضها هو المعني بالسياسة ، أي مصالح المجتمع الحياتيّة و معيشته و حريّاته التي تعرقلها السلطة و الدولة ، و هكذا ، تختلف الشؤون السياسيّة عن شؤون الدولة بل و تتعارض معها ، فبقدر ما تتسع الدولة تضيق السياسة ، فالدولة تعني القواعد بينما السياسة تعني الإبداع ، الدولة مهنة و السياسة فن .

علاقة السلطة بالسياسة أكثر غموضاً ، إذ قد تكون السلطة إنكاراً للسياسة أكثر من الدولة ، فهي مترسّخة في المجتمع أكثر منها ، ما يجعل ممارسة السياسة صعبة و محاطة بالتضييق ، و لذلك تبقى العلاقة بين السياسة و السلطة علاقة توتر دائم .

و كلّما كان المجتمع أخلاقيّاً كان سياسيّاً بطبيعته ، فالسياسة تحمل بُعداً أخلاقيّاً بل و تتجاوزه ، إذ تتمثّل وظيفتها في إيجاد أفضل الأعمال ، و هو أمر يتطلب المعرفة و العلم ، و معرفة ما هو أخلاقي أيضاً ، و أعظم ضلال في التفكير بالسياسة هو خلطها بالمصطلحات الكبرى كالدولة و الأمة و الطبقة ، فالحقيقة أنّ السياسة تكمن في الحريّة و المساواة و الديمقراطيّة ، و هي ممارسة هذه القيم لضمان استمرار المجتمع الأخلاقي و السياسي في كلّ الظروف .

و لا يُقصد بالمجتمع الأخلاقي و السياسي حقبة ماضية ، بل حالة طبيعيّة دائمة في الحياة الاجتماعيّة ، تستمر ما دامت هذه الطبيعة قائمة ، و دور السياسة هو جعل هذا المجتمع أكثر حريّة و مساواة و ديمقراطيّة لتطويره دون إفساده أو تجزئته ، فكلّ مجتمع يعيش على هذا النحو هو المجتمع الأفضل .

3″) ـ سياسة المدينة و استقلالها عبر التاريخ :

كانت أثينا و روما في العصر القديم تنهلان شهرتهما من قوّتهما السياسيّة ، إذ تُستذكر جمهوريّة روما و ديمقراطيّة أثينا بإعجاب حتى اليوم ، بسبب مزاولتهما سياسة المدينة بمهارة كبرى ؛ فقد واجهت أثينا الإمبراطوريّة الفارسيّة العملاقة و هزمتها ، و تحوّلت روما بسياساتها الجمهوريّة إلى مركز عالمي ، و لعبت سياسة كلتا المدينتين دوراً في تنامي الثقافة الإغريقيّة ـ الرومانيّة .

 و تُعدُّ بابل أول مثال عظيم لاستقلاليّة المدينة ، إذ أبدت كلّ مهاراتها في سياسة الاستقلال و شبه الاستقلال ، فصمدت بسياساتها البارعة أمام الإمبراطوريّات الكبرى من الآشوريين إلى الفرس و الإسكندر ، و تمكّنت من بلوغ مركز جذب مدني طويل الأمد ، مما يبرهن أنّ السياسة حريّة و إبداع .

و تُعدّ قرطاجة و تدمر مثالين مشابهين : فقرطاجة قاومت روما وقتاً طويلاً ، و نمت بفضل مقاومتها ، لكنّها خسرت حين هَوِيت أن تصير إمبراطوريّة ، لأنّ التحوّل إلى إمبراطوريّة إنكارٌ للسياسة ، و كذلك تدمر التي فقدت استقلالها حين تخلّت عن توازنها تجاه الرومان و الفرس الساسانيين .

و في العصور الوسطى راجت سياسات المدن شبه المستقلة التي قاومت الإمبراطوريّات الكبرى ، الإسلاميّة منها و المسيحيّة و المغوليّة و الصينيّة ، حتى مُحيت من التاريخ أحياناً كما حدث لمدينة أوترار التي لاقت مصير قرطاجة ، غير أنّ انتصار الدولة القوميّة في القرن التاسع كان ضربةً كبرى لاستقلال المدينة، لكنّ هذا الاستقلال عاد للاتساع ثانية مع ظاهرة ما بعد الحداثة ، حيث برزت سياسة المدينة إلى المقدمة من جديد .

***ملاحظة :

كيف كان مصير المدينتين أوترار و قرطاجة ؟

ـ مدينة أوترار : كانت تقع في آسيا الوسطى ، على نهر سيحون ، قرب الحدود مع أوزبكستان ، دُمّرت عن بكرة أبيها عام 1219 على يد المغول .

ـ مدينة قرطاجة : كانت عاصمة الدولة الفينيقيّة القرطاجيّة ، و تقع على الساحل الشمالي لأفريقيا ، قرب تونس العاصمة الحاليّة ، و قد أُحرقت و سُويّت بالأرض عام 146 ق .م على يد الرومان بعد حصار طويل .

4″) ـ دور سياسات شبه الاستقلال في بقاء المجتمع الأخلاقي و السياسي ، و المقاومة عبر التاريخ :

لم تقف المدن المتسيّسة ( المدن المتسيّسة : هي المدن التي يتميّز سكانها بنشاط و وعي سياسي مرتفع يؤثّر في الحياة العامة و صنع القرار ) فقط في وجه قوى المدنيّة ، بل أبدت المجموعات الاجتماعيّة الرئيسة من عشائر و قبائل و مذاهب دينيّة و فلسفيّة مقاومات ، تهدف إلى بقائها قوة شبه مستقلة ، و من أبرز الأمثلة : سياسة الاستقلال الذاتي للقبيلة العبريّة ، و مذاهب الإسلام العلوي ( الإسلام العلوي : فرع من الإسلام ينتسب إلى الإمام علي بن أبي طالب ، و يؤكد على ولائه و أحقيته بالخلافة بعد النبي محمد ) و الخوارج ( الخوارج : فرقة إسلاميّة ظهرت بعد معركة صفّين ، رفضت التحكم ، و كفّرت من خالفها ، و نادت بمبدأ أنّ الحكم لله وحده ) التي جسّدت سياسات الحياة المستقلّة للعشائر والقبائل و مقاومة سيادة السلطنة ( سيادة السلطنة : مبدأ سياسي يشير إلى السلطة العليا و المستقلة في إدارة شؤون الدولة دون خضوع لقوة خارجيّة ) .

و شهدت المسيحيّة و الموسويّة أيضاً مذاهب مقاومة مشابهة ، كما أدّت حياة الأديرة و المدارس الفلسفيّة القديمة ( المدارس الفلسفيّة القديمة : الاتجاهات الفكريّة التي ظهرت في الحضارات القديمة ، مثل الفلسفة اليونانيّة ، و هدفت إلى تفسير الوجود و الأخلاق و العقل ) أدواراً رئيسيّة في تهيئة أرضيّة المدنيّة و العلم ، إنّ حركات التحرر الوطني المعاصرة استمرارٌ لتلك التقاليد ، و هدفها الاستقلال السياسي ، و إن تحرّفَ أحياناً إلى استقلال الدولة القوميّة .

لقد لعبت سياسات شبه الاستقلال المحلّي والإقليمي دوراً مهماً في بقاء المجتمع الأخلاقي و السياسي ، فالميول السائدة في التاريخ هي المقاومة لا الخنوع ، و لولاها لكانت الدنيا كمعالم مصر فرعون ، و لم تقتصر المقاومة على المجتمعات ، بل تجلّت في شخصيّات سياسيّة كبرى من الأنبياء و الحكماء و النساء العظيمات ، إذ لولاهم لما بقي للمجتمع وجود و لا كرامة .

***ملاحظة :

 المقصود بعبارة لكانت الدنيا كمعالم مصر فرعون : أي إنّ تنوع العالم اليوم سببه وجود أنظمة حكم محلّيّة مستقلة نسبياً ، و لو كانت كل الدول تخضع لحاكم مركزي واحد مثل فرعون ، لكانت المعالم و العمران و الثقافات في كل الدنيا على نمط واحد ، كما كانت في مصر الفرعونيّة .

5″) ـ السياسة بين طغيان السلطة و تنامي المقاومة :

إنّ تفسير السياسة اليوم ، لا يمكن أن يتمَّ دون الإقرار بأنّ التاريخ ما زال حاضراً في الواقع المعاصر ، و رغم خيبة الأمل السائدة حيال الوضع السياسي و الأخلاقي الراهن ، فإنّ هذه السلبيّة لا معنى لها ، لأنّ التعمّق في التحقيق السياسي يكشف أنّ السلطة المدنيّة و الحداثة قد بدأتا بالانحدار منذ زمن ، فالسلطة التي تتناثر في المجتمع تفقد قوتها ، كما تفقد الموجة أو الصخرة المتهاوية وزنها ، و كلّما انتشرت بين الأفراد والوحدات الاجتماعيّة ، خلقت فيهم روح المقاومة ضدها ، إذ إنّ القمع المتغلغل في كلّ مسام المجتمع يولّد مقاومة طبيعيّة له ، و قد اختلفت السلطة العصريّة عن كلّ ما سبقها ، إذ بلغت الرأسماليّة في احتكاراتها أقصى درجات الانتشار ، حتى غزت كلّ زاوية من العالم ، و فاقمت الأزمة الأيكولوجيّة و الاجتماعيّة إلى حدّ كارثي ، بينما تسللت الدولة القوميّة إلى أعماق كل فرد ، مهيمنةً عليه كأقوى قوة إلهيّة عرفها التاريخ .

6″) ـ السياسة قطبٌ مضادٌ للسلطة في عصر الحداثة :

مقابل واقع السلطة المتمثّل في الرأسماليّة و الصناعويّة و الدولة القوميّة ، تُرغم السياسة على الاختلاف بما لا مثيل له في أي عهد تاريخي ، باعتبارها قطباً مضاداً ، و بما أنّنا لن نعيش عهد ما قبل المدنيّة و لا ما بعدها ، فإنّ البنية السياسيّة للحداثة أيضاً مرغمة على الاختلاف ، إذ تضطر السياسة للتواجد في كلّ مكان ، و بما أنّ السلطة ترتكز إلى كلّ وحدة و فرد اجتماعي ، فينبغي على السياسة أن ترتكز على كلّ وحدة و فرد أيضاً .

من المفهوم ضرورة تكوّن و انتشار الأجهزة المقابلة لأجهزة السلطة في جميع مستويات المجتمع ، و من الساطع استحالة مواجهتها بالبُنى التنظيميّة القديمة المتمحّورة حول الدولة ، و ينبغي ابتداء السياسة من المقاومة في مواجهة السلطة ، فبما أنّ السلطة تعمل على غزو و استعمار كلّ وحدة و فرد اجتماعي ، فإنّ السياسة تسعى إلى كسب و تحرير كل ّ وحدة و فرد ترتكز إليهما ، و بما أنّ كلّ علاقة وحداتيّة أو فرديّة هي سلطويّة ، فهي سياسيّة أيضاً بالمعنى المضاد ، و لأنّ السلطة تولّد الأيديولوجيّة الليبراليّة ( الأيديولوجيّة الليبراليّة : فكر سياسي و اجتماعي يؤكد على الحريّة الفرديّة و الديمقراطيّة و حقوق الإنسان و اقتصاد السوق ) و الصناعويّة ( الأيديولوجيّة الصناعويّة : توجه فكري يرى في التقدم الصناعي أساساً لتطور المجتمع و ازدهاره الاقتصادي ) و الرأسماليّة ( الأيديولوجيّة الرأسماليّة : نظام اقتصادي يقوم على الملكيّة الفرديّة و حريّة السوق و السعي إلى الربح ) و الدولة القوميّة ( الدولة القوميّة : هي دولة تقوم على وحدة الأمة التي تجمعها لغة و ثقافة و تاريخ و هوية مشتركة ، و تتمتع بسيادة سياسيّة على إقليم محدد )، فعلى السياسة أن تُنتج أيديولوجيّة الحريّة ( أيديولوجيّة الحريّة : فكر يقوم على تحرير الإنسان من القيود السياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة لتحقيق استقلاله الذاتي ) و الصناعة الأيكولوجيّة ( الصناعة الأيكولوجيّة : نمط صناعي يهدف إلى التنمية المستدامة و تقليل الأثر البيئي عبر التكنولوجيا النظيفة و إعادة التدوير ) و المجتمع الكومونيالي ( المجتمع الكومونالي : نظام اجتماعي يقوم على الملكيّة الجماعيّة و التعاون و المساواة بين الأفراد ) و الكونفدراليّة الديمقراطيّة ( الكونفدراليّة الديمقراطيّة : اتحاد يجمع منظّمات لدعم الديمقراطيّة و حقوق الإنسان ) ، و كما تنظّم السلطة ذاتها على جميع المستويات من الفرد إلى الكون ، فعلى السياسة أن تنتظم بالمثل في كلّ هذه المستويات ، و تفرض دعايتها و ممارساتها ضمنها جميعاً.

و في مقابل الرأسماليّة هناك ميول النقابات العماليّة ( النقابات العماليّة : منظّمات تمثّل العمال و تدافع عن حقوقهم و مصالحهم المهنيّة و الاقتصاديّة ) , و مقابل الصناعويّة هناك الصناعويّة الأكثر تطوراً ، و مقابل الدولة القوميّة المركزيّة ( الدولة القوميّة المركزيّة : دولة موحّدة تتركز فيها السلطة السياسيّة و الإداريّة و تقوم على رابطة قوميّة موحّدة ) هناك الدولة القوميّة المركزيّة الأكثر تطوراً ، فالسلطة مقابل السلطة ، و النار مقابل النار ، و جميعها تُفسخ داخليّاً تحت وطأة أجهزة السلطة العملاقة ( أجهزة السلطة العملاقة : مؤسسات الدولة الكبرى التي تمارس التحكّم الشامل في السياسة و الاقتصاد و المجتمع ، كالجيش ، الأمن ، البيروقراطيّة ) التي لا تُطاق ، إذ أنّ مذهب الاشتراكيّة المشيدة ( الرأسماليّة اليساريّة ) لم يمارس السياسة إلّا من خلال هذا السبيل .

إنّ الاشتراكيّة ، بعد إصلاحها ، رسّخت سلطة المذهب الديمقراطي الاجتماعي ( المذهب الديمقراطي الاجتماعي : فكر يجمع بين الديمقراطيّة و العدالة الاجتماعيّة ) ، بينما تحوّلت الحركات التحرريّة الوطنيّة إلى دول قوميّة أدت دوراً رئيسيّاً في نشر الرأسماليّة عالميّاً ، و قد تمثّلت أخطاء تلك التيارات في تمسّكها بجزء من السلطة ، أو تخلّيها عنها كليّاً كما فعل الفوضويون ( الفوضويون : تيار سياسي يرفض كل أشكال السلطة و يرى أنّ الحريّة الحقيقيّة تتحقق بإلغاء الدولة و المؤسسات القسريّة) ، أو انشغالها بمنظّمات المجتمع المدني ( منظّمات المجتمع المدني : جمعيّات غير حكوميّة تعمل لخدمة المجتمع و حماية الحقوق ) دون وعي منهجي ( وعي منهجي : إدراك منظّم يعتمد على العقل و التحليل المنطقي لفهم الظواهر و المشكلات ) بالسلطة أو سياسة بديلة ، فتركوا المجال لمتعهّدي السلطة، غافلين عن أنّهم يساهمون في استمرار الأزمة الرأسماليّة التي لا تُعدّ علاجاً ناجعاً .

إنّ لغة الحداثة الديمقراطيّة ( الحداثة الديمقراطيّة : تصور معاصر يسعى إلى دمقرطة المجتمع و تعزيز المشاركة الشعبيّة و العدالة و البيئة ) هي لغة سياسيّة تنشئ البُنى النظاميّة عبر الفن السياسي ( الفن السياسي : القدرة على إدارة الشؤون العامة بذكاء و حنكة لتحقيق المصالح العامة و تجنّب الصراعات ) ، و أنّ قضيّة المجتمع الأخلاقي و السياسي المعاصر ـ الحريّة و المساواة و الديمقراطيّة ـ قضيّة وجوديّة ، إذ تتطلّب هجمات الحداثة المتعددة دفاعاً ذاتيّاً يحمي المجتمع ، و يجعل من المقاومة جوهر السياسة المرحليّة ، فبينما تطوّرُ السياسةُ الديمقراطيّةُ المجتمعَ الأخلاقيَّ و السياسيَّ ، فالدفاعُ الذاتيُّ يحميه من هجمات السلطة .

أمّا الشكل السياسي للقوى المناهضة للمدنيّة السلطويّة ( المدنيّة السلطويّة : نظام يقوم على تطور مدني ظاهري لكن مع هيمنة سلطة استبداديّة تحدّ من الحريّات ) ، فهو الكونفدراليّة ، حيث ترتبط المكونات الاجتماعيّة بروابط مرنة قائمة على احترام الاستقلال الذاتي ، ويتحقق السلام بوجود الرضى ، بينما يؤدي غيابه إلى الحرب الدائمة ، و يتجسد مبدأ الإدارة المجتمعيّة البديلة لبنية الدولة القوميّة في السياسة و الكونفدراليّة الديمقراطيّة ، إذ تُمارس السياسة بالنقاش و الوفاق لا بالأوامر ، لتشكّل نظاماً سياسيّاً عالميّاً جديداً ( نظام سياسي عالمي جديد : تصوّر لنظام دولي قائم على توازن القوى ، أو التعاون العالمي بعد التحوّلات الجيوسياسيّة الكبرى ) ، و بينما تسعى الرأسماليّة إلى الحفاظ على سلطتها بإعادة هيكلة الدولة القوميّة ، تكمن مهمة قوى الحداثة الديمقراطيّة في تطوير النظام الكونفدرالي الديمقراطي لصون و تطوير المجتمع الأخلاقي و السياسي .

7″) ـ المهام السياسيّة للحداثة الديمقراطيّة :

أ ـ الطبيعة الاجتماعيّة تكوينٌ و وجودٌ أخلاقيٌّ و سياسيٌّ ، و المجتمعات الموجودة مستمرّة بماهياتها الأخلاقيّة و السياسيّة ، و إذا فقدت هذه الماهيّة ، فسيُحكم عليها بالتبعثر و الفناء .

ب ـ إنّ تصوّر المجتمعات في أشكال متقدّمة على خطٍ مستقيمٍ كالمجتمع البدائي ، فالعبودي ، فالإقطاعي ، فالرأسمالي ، فالاشتراكي يخدم تزوير و مواراة حقائقها ، لأنّ الطابع الأساسي للمجتمعات هو الماهيّة الأخلاقيّة و السياسيّة .

ج ـ تتولّد المشكلة الاجتماعيّة بالارتباط مع تحكّم و استغلال السلطة ، فكلّما تطوّرت السلطة و الاستغلال ، كلّما ظهرت معها القضايا الاجتماعيّة .

ح ـ إنّ السياسة وسيلة الحل المجتمعيّ الأساسيّة ، و الدفاع الذاتي ضروريّ للدفاع عن المجتمع و حمايته كاستمرار للسياسة كقوة عسكريّة .

خ ـ كلّما عملت المدنيّات في التاريخ على إدارة المجتمع عبر حكم الدولة ، كلّما ضاق نطاق فعّاليّة السياسة ضمنه ، و ما دامت المجتمعات قائمة ، فهي تردّ على تضييق نطاق فعّاليّة السياسة بالمقاومة.

د ـ تتحقق عهود السلام في التاريخ بالاعتراف المتبادل و الاحترام المتبادل للهويات و المصالح فيما بين قوى المدنيّة و القوى الديمقراطيّة .

ذ ـ تحاصرُ السلطةُ المجتمعَ داخليّاً و خارجيّاً في عهد الحداثة الرأسماليّة ، و تخوض السلطة و الدولة القوميّة حرباً دائمة ضدّ المجتمع .

س ـ حالة الحرب الشاملة التي تعلنها الحداثة الرأسماليّة تجاه المجتمع ، تجعل الحداثة الديمقراطيّة بديلاً لها ، فالحداثة الديمقراطيّة هي وجودُ و وقفةُ كلِّ مَن يتناقض وجودُه و مصالحُه مع النظام الرأسمالي .

ش ـ ظلّت نضالات القوى المضادة للنظام عقيمة و فاشلة خلال القرنين الأخيرين ، و بقيت غير قادرة على تشكيل بديل مضاد للحداثة ، بسبب اعتمادها على الذهنيّة القديمة و بُناها .

ص ـ الحداثة الديمقراطيّة بدعائمها الثلاث : المجتمع الديمقراطي ، الصناعة الأيكولوجيّة، الكونفدراليّة الديمقراطيّة ، هي البديل الوحيد للحداثة الرأسماليّة بدعائمها الثلاث : الرأسماليّة ، الصناعويّة ، الدولة القوميّة .

ع ـ الكونفدراليّة الديمقراطيّة شكلٌ سياسيٌّ أساسيٌ للحداثة الديمقراطيّة ، و الخيار السياسي الرئيسي لها ضدَّ الدولة القوميّة ، و وسيلة الديمقراطيّة الأنسب لصياغة الحلول للقضايا العالقة .

غ ـ يتحقق صعود الحريّة ، و المساواة ضمن الاختلاف ، و الديمقراطيّة بأفضل السبل في المجتمعات الأخلاقيّة و السياسيّة التي تسودها السياسة الديمقراطيّة .

ط ـ تعرض الكونفدراليّة الديمقراطيّة خيارَ الأمة الديمقراطيّة كوسيلة حلّ أساسيّة للقضايا الأثنيّة و الدينيّة و المدينيّة و المحليّة و الإقليميّة و القوميّة الناجمة عن نموذج المجتمع الفاشي النمطي ذي اللون الواحد ، و المُتكشّف عن تراصٍّ و تناغم كليّ و المُسيّر بيد الحداثة عن طريق الدولة القوميّة .

ظ ـ ” الكونفدراليّة العالميّة للأمم الديمقراطيّة ” ، هي بديل الاتحاد العالميّ للأمم الديمقراطيّة مقابل ” هيئة الأمم المتحدة ” .

ق ـ بمقدور قوى الحداثتين : الرأسماليّة و الديمقراطيّة أن تعيش معاً ضمن أجواء السلام المستَتِبّ على أساس قبول وجود و هويات بعضها البعض ، و الاعتراف بالإدارات الديمقراطيّة المستقلة ذاتيّاً ، ضمن حدود الدولة القوميّة و خارجها على حدّ سواء .

3 ـ الخلاصة و الخاتمة :

تطوّر علم الاجتماع اصطلاحاً بالتزامن مع المدنيّة الأوروبيّة المركز ، إذ إنّ نمط القواعد التي يمكن تسميتها بعلم الاجتماع قد تواجد على نحوٍ موازٍ للطبيعة الاجتماعيّة ؛ و يمكن تسمية علم الاجتماع ما قبل التاريخ بالأرواحيّة ( الأرواحيّة : الاعتقاد بوجود روح أو كيان معنوي مستقل عن الجسد ) ، غير أنّ الأرواحيّة التي تُعدّ من مصطلحات علم الاجتماع الأوروبي المركز ليست وعياً بدائيّاً كما يُزعم ، فالعلماء الذين يرون أنّ التمييز بين الذات و الموضوع أرقى من الأرواحيّة ، هم علماء الاجتماع أنفسهم ، و تُعدّ المدرسة الأرواحيّة براديغما ( نموذج فكري ، أو إطار ) أثمن من تلك التي تؤدّي إلى الفصل بين الذات و الموضوع ، لأنّ تعريف الكون بالأرواحيّة يفضي إلى نتائج صحيّة أكثر ، وتؤيد المنجزات العلميّة هذا الأمر ، أمّا الوضعيّة ، فهي نوع خطير من الميتافيزيقيا أحدثت شروخاً عميقة في علم الاجتماع.

لقد أفضى السياق الحضاري التاريخي إلى علم ينتقل من الأرواحيّة نحو الميثولوجيا، التي تمثّل الطابع المدني رغم أنّها ليست حكراً عليه ، و قد مثّل التحريف الأول للوعي في علم الاجتماع هيمنة أيديولوجيّة المدنيّة ، حيث لا يمكن احتكار السلطة و رأس المال دون الكذب و التحريف ، و على الرغم من أنّ الميثولوجيا مفعمةٌ بالأرواحيّة ، فقد حُرّفت مع دخول حكايات البطولة و التأليه انعكاساً للنظام الهرمي المؤلّف من الكاهن ـ الحاكم ـ القائد ، لكنّها تبقى علماً اجتماعيّاً تعليميّاً إذا ما أُخذت ماهيّتُها المزدوجة في الاعتبار .

و من صرامة الميثولوجيا نشأَ الدينُ كنوعٍ ثانٍ من علم الاجتماع ، إذ ورث الميثولوجيا و أضفى عليها قوالبه الدوغمائيّة ( الدوغمائيّة : التمسّك بالرأي أو العقيدة دون نقد أو شك) ، و رغم طابع المدنيّة الغالب عليه، فإنّ التفسير الديني للحقيقة لدى القوى المضادة للمدنيّة أكثر شفافيّة و واقعيّة ، لكونه يمهّد الأرضيّة للعلم المعاصر ، و تتجلّى انعكاسات القوتين في الأديان التوحيديّة ، حيث يعكس البعد الثيولوجي( البعد الثيولوجي : النظر إلى الأمور من منظور ديني أو إيماني) الآمر أحوال القوى المدنيّة ، فيما يجسّد البعد المكافئ و المحرّر أفكار القوى المضادة ، و قد امتلأت العصور الوسطى بصراعات بين الأديان و المذاهب ، و لولاها لما تكوّن علم الاجتماع الأوروبي ، و يكفي التفكير بتأثير الإسلام و إشراق الفلسفة و الحكمة لإدراك ذلك .

و كما نبع علم الاجتماع في عصر المدنيّة الأوروبيّة من هذا الميراث ، فقد وُلد كضرورة للنضال الاجتماعي العظيم الذي رافق الرأسماليّة ، فكان أداة لحل المعضلات ، لكنّه أُنيط منذ البداية بشرعنة نظام الاستغلال .

و هكذا أدّت السوسيولوجيا الوضعيّة ( السوسيولوجيا الوضعيّة : دراسة المجتمع بناءً على الحقائق و الوقائع دون تفسير ديني أو أخلاقي ) إلى ولادة علم اجتماع معلول ( علم اجتماع معلول : دراسة الظواهر الاجتماعيّة القائمة على السبب و النتيجة ) ، إذ سعى الوضعيون إلى إقامة جمهوريّة تحمي مصالح البورجوازيّة ، و سعى الاقتصاديّون الإنكليز إلى شرعنة رأس المال ، فيما انكبّ المنّظرون الألمان على بناء الدولة القوميّة العملاقة ، أما ماركس و أنجلز ، فقد أرادا إبداع علم بروليتاري( علم بروليتاري : علم يدرس البُنى الاجتماعيّة و السياسيّة بطريقة ثنائيّة مثل : غني ـ فقير ، قوي ـ ضعيف ) مناهض للرأسماليّة ، لكن تأطيرهما للنظام بمناهضته ، جعل بُنى النظام بلا حماية تجاه الحداثة ، كما ترك الأنارشيون ( الأنارشيون : جماعات أو أفكار ترفض السلطة المركزيّة و الدولة ) الميدان السياسي فارغاً ، فانشغل السوسيولوجيّون ( السوسيولوجيّون : علماء يدرسون المجتمع و علاقاته و سلوك الأفراد و الجماعات ) الأوروبيّون بقضايا النظام القائم بدل الطبيعة الاجتماعيّة ، فصار علم الاجتماع أوروبي المركز ، بينما نجحت الأيديولوجيا الليبراليّة في إلحاق التيارات بالنظام و تحويل العلم إلى علم السلطة و المال ، غير أنّ الحداثة الأوروبيّة ، بوصفها نظاماً استغلاليّاً سلطويّاً ، واجهت مقاومات كبرى جعلت النظام و النظام المضاد كونيين معاً ، و تصدّعت هيمنة المدنيّة على العلم تدريجيّاً ، و أُدرك أنّ التاريخ لا يمكن إلّا أن يكون تاريخ العالم .

لقد هيّأت الفلسفة الفرنسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية ( الفلسفة الفرنسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية : تيارات فكريّة تشمل الوجوديّة و ما بعد البنيويّة ) ، و ثورة 1968 الشبيبيّة الثقافيّة ( ثورة الشبيبة الثقافيّة : حركة احتجاجيّة شبابيّة عالميّة ضد السلطة و التقاليد ) ، و انهيار النظام السوفييتي داخليّاً ( انهيار النظام السوفييتي داخلياً : تراجع و تفكك الاتحاد السوفييتي بسبب أزمات سياسيّة و اقتصاديّة ) ، و إفلاس دولة الرفاه ( إفلاس دولة الرفاه : عجز الدولة عن تمويل الخدمات الاجتماعيّة بسبب أزمات ماليّة ) ، و أبحاث ما وراء الحداثة ( أبحاث ما وراء الحداثة : دراسات نقديّة للحداثة و تداعياتها على الفكر و الثقافة ) ، و تصفية الاستعما ر الكلاسيكي ( الاستعمار الكلاسيكي : سيطرة القوى الأوروبيّة على المستعمرات من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين ) ، لمرحلة جديدة في علم الاجتماع ، بات فيها البحث عن الحقيقة أكثر تحرراً من عراقيل الوضعيّة و من المركزيّة الأوروبيّة ( المركزيّة الأوروبيّة : الهيمنة الفكريّة و السياسيّة و الثقافيّة لأوروبا على العالم ) ، و حُتّم على علم الاجتماع أن يؤدي دور ” إلهة العلوم ” بتكامله مع سائر العلوم ، و أن يتجاوز أزمته الداخليّة تماشياً مع الأزمة العامة ، ليغدو علماً يفسّر الحياة بالحريّة و الحقيقة بالبحث عنها ، و يمثّل دليلاً ( مانيفستو) لتنوير و تطوّر المجتمع الأخلاقي و السياسي .

الفهرس :

1ـ المقدّمة

2 ـ مهام إعادة هيكلة الحداثة الديمقراطيّة :

1″ـ المهام الفكريّة :

         1″) ـ الأزمة الفكريّة و مأزق الحداثة في عصر ما بعد التنوير

         2″) ـ الثورات الفكريّة الكبرى في مسيرة الحضارة الإنسانيّة

         3″) ـ أزمة الفكر تحت احتكار رأس المال و هيمنة الدولة القوميّة

        4″) ـ تحوّل العلم من ملكٍ للمجتمع إلى أداة بيد السلطة عبر التاريخ

        5″) ـ انفصال العلم عن الأخلاق و تحوّله إلى أداة بيد رأس المال و السلطة

        6″) ـ الوثنيّة الجديدة في الفلسفة الوضعيّة و علاقتها بالمدنيّة و العلم

        7″) ـ الوضعيّة و إنكار الحقيقة في تفسير الظواهر

        8″) ـ الأزمة الحضاريّة بين ظاهر المصطلحات و حقيقة المجتمع الأخلاقي

        9″) ـ المهام الفكريّة للحداثة الديمقراطيّة

2″ ـ المهام الأخلاقيّة :

        1″) ـ الأخلاق هي الأساس الأصيل للمجتمع و الديمقراطيّة

        2″) ـ صراع الأخلاق و القانون في مسار المدنيّة

        3″) ـ العلاقة بين الدين و الأخلاق و تطورها عبر التاريخ

        4″) ـ الثورة الأخلاقيّة الزرادشتيّة في مواجهة الميثولوجيا

        5″) ـ المهام الأخلاقيّة للحداثة الديمقراطيّة في سياق إعادة الهيكلة

3″ ـ المهام السياسيّة :

        1″) ـ السياسة و فن الحريّة

        2″) ـ جوهر السياسة و تمييزها عن الدولة و السلطة

        3″) ـ سياسة المدينة و استقلالها عبر التاريخ

        4″) ـ دور سياسات شبه الاستقلال في بقاء المجتمع الأخلاقي و السياسي ، و               المقاومة عبر التاريخ

        5″) ـ السياسة بين طغيان السلطة و تنامي المقاومة

        6″) ـ السياسة قطبٌ مضادٌ للسلطة في عصر الحداثة

        7″) ـ المهام السياسيّة للحداثة الديمقراطيّة