في مثل هذا اليوم:

في مثل هذا اليوم ، تعود الذاكرة إلى التاسع من تشرين الأول عام ١٩٩٨ ، حين بدأت خيوط مؤامرة العصر التي نُسجت في دهاليز السياسة الدوليّة ، تُنفّذ بحذافيرها ضد القائد عبدالله أوجلان ، الذي حمل على عاتقه حلم الحرية و الكرامة و العيش المشترك و الديمقراطيّة ، ليس لشعبه فحسب ، بل لكل الشعوب المضطهدة ، و سعى بكلّ ما أوتي من فكر و فلسفة و علم إلى أن يُبدّل لغةَ الرصاص بلغة الحوار و السلام .
خرج القائدعبدالله أوجلان من سوريا ، متجهاً نحو الساحة الأوروبيّة ، حاملاً أملاً كبيراً بأن يجد في هذه البقعة من الأرض التي تتغنّى بحقوق الإنسان ، ملاذاً آمناً لرؤيته الإنسانيّة البعيدة المدى ، و منبراً للحل الديمقراطي و بالطرق السلميّة و الدبلوماسيّة للقضيّة الكرديّة ، التي أراد لها أن تكون جسراً نحو استقرار منطقة الشرق الأوسط ، لا لإشعال شرارتها و فتيل حربها .
لكن ، ما لبثت أن تكشّفت الحقيقةُ المرّةُ ، حين تواطأت قوى كبرى في مؤامرة دوليّة قذرة و بشعة ، اجتمعت فيها المصالح و تلاقت فيها الأيادي الخفيّة لتسليم القائد عبدالله أوجلان إلى السلطات التركيّة في مطار نيروبي / كينيا ، في الخامس عشر من شباط عام ١٩٩٩ .
و منذ ذلك اليوم الأسود الذي حُفر في الذاكرة الوطنيّة للكرد و لكل مناضل نبيل شريف ، يعيش القائد عبدالله أوجلان في عزلة قاسية عن العالم الخارجي ، بل في تجريد تام ، داخل سجن إمرالي الذائع الصيت ، في غرفته الانفراديّة التي لا تتجاوز المترين طولاً و عرضاً ، بعيداً عن العالم ، قريباً من وجدان الملايين الذين وجدوا في فكره نبراساً ، و في صموده دروساً في الكرامة .
سبعةٌ و عشرون عاماً مضت ، و لا تزال تركيا تضرب عرض الحائط بكل القوانين و المواثيق الدوليّة ، التي تقرّ ” حق الأمل ” للمعتقلين السياسيين ، و القائد عبدالله أوجلان قد تجاوز السادسة و السبعين ربيعاً ، يقاسي ظروفاً صحيّة صعبة ، ضمن ظروف مناخيّة قاسية ، في ظل صمت دوليّ يضاهي حجم الجريمة التي ارتُكبت بحقه ، و مع كل ذلك ، لم ينجح السجن في إطفاء شعلة فكره النيّر ، و لم تنجح العزلة في كسر إرادته و إسكات صوته ، ففي السابع و العشرين من شباط المنصرم ، أطلق نداءه التاريخي ، نداء السلام و المجتمع الديمقراطي ، فاتحاً أبواب الأمل الموصودة أمام تركيا و المنطقة بأسرها ، بيدَ أنّ الدولة التركيّة – كعادتها – قابلت يد السلام و الإخاء و الديمقراطيّة و المحبة الممدودة بسياستها الفاشية الصمّاء البكماء ، رافضةً الاعتراف بالآخر ، مستمرةً في دوامة القمع و الإنكار و إشعال نيران الفتنة و الخراب في المنطقة .
حدث في مثل هذا اليوم ، بأنّ التاريج سجّل في وجدانه أقذر مؤامرة ، كما سجّل في ذاكرته الحية صمودَ قائدٍ ، فيلسوف ، حوّل زنزانته إلى مدرسة للفكر ، و عزلته إلى فضاء للإنسانيّة .
في مثل هذا اليوم ، سجّلت البشريّة بأنّ القائد عبدالله أوجلان تحوّل إلى رمزٍ للثبات في وجه عواصف الغدر و الخيانة التي جاءته من كل حدب و صوب ، و إلى صوت يذكّر العالم بأنّ الحقوق لا تُمنح ، إنّما الحقوق تؤخذ بالقوة ، و إنّ الحريّة تُصان بالفكر و الموقف و الإيمان بحتمية تحقيق العدالة مهما طال الزمن .
بقلم : جيان أركندي